تماما مثلما لا يسأل الإنسان نفسه عن اسمه، لم أسأل نفسي في يوم من الأيام ما إذا كنت عراقيا أو سوريا. كنت دائما الإثنين معا، ولم أجد في يوم من الأيام جريمة ارتكبت بحق العرب مثل جريمة فصل العراق وسورية إلى دولتين. إنهما دولة واحدة، جناحا نسر عظيم بالتحامهما تتأسس دولة العرب. قيل عن صدام حسين تارة أنه نبوخذنصر، وتارة القعقاع وحامي البوابة الشرقية. تمنيت وأنا في عامي 1979/1978 أن يكون صدام حسين ظل سيف الدولة الحمداني فيعيد اللحمة بين حلب والموصل. حين خرب صدام التقارب العراقي السوري في تلك السنة وضع نفسه على الدرب الذي أوصله إلى نهايته. وبقيت الضربة التي وجهها لجناحي النسر بعد ذلك تلقي بظلال من الشك على كل ما كان يدعيه. تلك كانت خيانة لا تغتفر. سورية والعراق، لا يطغى الشعور بالانتماء إلى أحدهما على الانتماء إلى الآخر إلا بقدر معاناتهما، فالانتماء إلى العراق كان يزداد بشكل مطرد مع ازدياد معاناة العراقيين، والانتماء إلى سورية مع ازدياد معاناة السوريين. ولم أنس الاثنين معا إلا عند ازدياد معاناة الفلسطينيين.
هذا كلام سياسي، بلا شك. أما على أرض الواقع فيوم غادرت بغداد قبل خمس وثلاثين سنة كانت لنا طفلة واحدة، وبعد سنوات الإقامة في الشام صارت الطفلة ثنائية اللهجة، عند التحدث معنا تتحدث بالعراقية ومع أي شخص غيرنا تتحول بشكل تلقائي إلى اللهجة الشامية، ولا أظن أنها كانت تميز بين هوية عراقية وأخرى سورية، ويوم خرجنا من الشام إلى بلد آخر ترسخ عندها بالتأكيد الشعور بأننا سوريون، فقد كنا نعيش مع السوريين، وتذهب هي إلى مدرسة سورية، وكنا بذلك نأمن شر المخابرات العراقية التي كانت يومها تشكل كابوسا لكل عراقي هارب من العراق. ولم نكن نثير أي شك في هويتنا بفضل الأوراق الثبوتية السورية. فقط يوم ترتب علينا أن نهرب من المعارضة العراقية (عسى أن لا يرضى عنها الله) تلك المعارضة التي أصبحت رديفا للمخابرات العراقية ثم تحولت إلى أداة خيانة وطنية تساعد على غزو العراق، يوم هربنا منها قاصدين غرب أوروبا صار لزاما علينا أن نلجأ إلى عراقيتنا، فالسوري لم يكن يُمنح حق اللجوء في أوروبا لأن سورية كانت بلدا آمنا لا ينتهك حقوق الإنسان.
يومها وجهت إليّ طفلتي سؤالا صادما “أبي قولوا لي الحقيقة هل نحن سوريون أم عراقيون؟” ربما يُغفر لأب في بداية الثلاثينات من العمر أن يبدأ بتشويش مزعج على هوية طفل أوطفلة وهي مقبلة على رحلة أهم صعوبة فيها هي مسألة الهوية، ولكن بعد كل تلك السنوات يتساءل المرء عن مشروعية حشر الأطفال أصلا في السياسة وتعقيداتها – لماذا نتخفى، ولماذا نهاجر، ولماذا نحن سوريون حينا وعراقيون حينا آخر. بالتأكيد كان الجواب بـ “نحن كلاهما يا ابنتي” صعبا على مدارك طفلة. كيف يمكن لطفلة لا تتذكر من بغداد غير وجه جدة حنون أن تفهم أنها عراقية وقد كان عالمها لسنوات السيدة زينب، وركن الدين، وحديقة السبكي، ودمر البلد، ودمر فوق التربة، وبردى، وكانت أغانيها اليومية “صيدلي يا صيدلي يا صيدلي .. بدي دوا ألها وبدي دوا إلي” و “يا ناس غنوا ويانا تحيا ثورتها وفرسانا .. الكاف كايدنا يندم واللام لو يتحدانا”؟ وكل شيء حولها يقول لها أنها سورية؟ لكن تلك الصعوبة ستصبح عما قليل لا شيء إزاء تجارب اضطراب الهوية بين بلد المهجر وبلد الأصل …
كنت وابني نغادر مطار اسطنبول. كنت طوال الرحلة سوريا بدمي، ومشاعري، وغضبي، وآلامي، وهو يشاركني كل شيء فهو سوري أصلا بالولادة على الأقل. وهنا في المرحلة الأخيرة كانت أمامنا في الخرطوم المؤدي إلى الطائرة إمرأة تحمل أكياسا وحقيبتين تنوء تحت ثقلهما، ومعها طفلة صغيرة تجر هي الأخرى حقيبة وبيدها كيس، وكانتا تزحفان زحفا، ولا أدري كيف سمحوا لهما بأخذ تلك الحقائب معهما إلى الطائرة. قلت في نفسي وأنا أطلق حكما مسبقا “سبحان الله يخيل إلي أحيانا أننا نحن العرب وحدنا أصبحنا مثل الغجر نجرجر الأحمال والأثقال في المطارات. انظر هذه إمرأة أوروبية.. غجرية أيضا” لم أكن رأيت منها وأنا أسير وراءها سوى شعرها الأصفر، ولكن ربما كانت ملامح الطفلة هي التي جعلتني أحسب أنهما أوروبيتان. وصلنا إلى الطائرة، واستقبلنا المضيفون والمضيفات، ودخلنا في الممر الضيق بين المقاعد على الجهتين. وواصلت المرأة وابنتها الزحف مع الحقائب. كنا نحن حجزنا مكانين على جانبي الممر فكلانا لا نحب الجلوس قرب النافذة أو في الوسط. في نهاية الزحف وجدت أن المرأة وابنتها ستجلسان إلى جانبي في آخر صف من المقاعد. هناك فقط وضعتا الحقائب الثقيلة على الأرض. قلت لابني “ساعد المرأة في رفع الحقائب .. يا ابني”. عند هذا التفتت المرأة إلي، وسألت بدهشة “الأخ عربي؟” فقلت وأنا أيضا مندهش “نعم”، فأردفت “يعني عربي عربي؟” فضحكت وقلت “لا، عربي هندي”، فقالت “وأنا عربية بس أنا كردية كمان”. كيف لي أن أصف ما رأيته من ارتياح نزل فجأة على وجهها ووجه الطفلة؟ جلسنا في المقاعد الثلاثة وبدأ الحديث، ولم تمض سوى دقائق حتى عرفت القصة من أولها إلى آخرها. رحلة عذاب بدأت من حلب، ومعاناة لا توصف في اسطنبول، والآن في الطريق إلى الدنمارك حيث ينتظرهما الأب والأخ والبنت الكبرى، وووو. وهذه أول رحلة لهما بالطائرة، والطفلة خائفة. وسارعت المرأة إلى طمأنة نفسها بأننا سنساعدها في حمل الحقائب حتى تخرج من المطار حيث سيكونون بانتظارهما. وعرفت أنا كيف سأقضي الساعات الثلاث القادمة. نادين، اسم الطفلة نادين. تخطيت حاجز الزمن، وعدت ثلاثين سنة إلى الوراء. أليست نادين هي ابنتي وقد عادت معي أيضا ثلاثين سنة إلى الماضي في هذه الطائرة؟ وإلا كيف يمكن للزمن أن يعيد نفسه بهذا الشكل؟ هي هي لم تتغير طفولة أطفال العرب ..
– “عمو. بتعرف كم لغة أحكي. أنا بحكي عربي وكرمانجي، وانجليزي، وراح اتعلم دنماركي”، فقلت لها:
– “وألماني كمان. بالدنمارك الأولاد يتعلموا الانجليزي من الصف الأول، والألماني من الصف الرابع”، وواصلت هي:
– “أنا باعرف كيف رح اتعلم دنماركي. بس أول شي بتعرف ليش أنا كثير مبسوطة؟ اختي خلفت صبي، وصار عمرو اربع شهور ولسه ما شفتو. يا الله عمو امتى راح أوصل. ما بعرف شو راح يصير فيني لما اشوفو. رح موت من الفرح.” والتفتت إلى أمها، وقالت:
– “أمي، شوفي هاي الله بيحبنا. شوفي كيف استجاب لدعائك لما قلت يا ربي ابعت النا حدا يساعدنا؟هاي بعتنا عمو.”
ثلاث ساعات من الحديث الممتع المحزن. وأخيرا بدأنا الهبوط، فقلت لها:
– “هلا اطلّعي من الشباك. قبل ما ننزل بشوي حتشوفي المدينة ما أحلاها من فوق”.
ظلت تترقب تلك اللحظات حتى إذا أصبح مشهد المدينة واضحا، التفتت إلى أمها، وقالت:
– “أمي شوفي ما أحلاها. يعني هي رح تصير وطني الجديد؟”
ثم صمتت، وما هي إلا لحظات حتى تغيرت سحنتها، ورأيت تقطيبة عميقة على جبهتها، ورجفة على شفتيها، وقالت كأنها ترد على نفسها:
– “لا. أمي أنا حلب وطني. ما فيه بالدنيا أحلى من حلب.” وحشرت رأسها في حضن أمها.
أهلا بك يا نادين في نادي “اضطراب الهوية” وقد تشرف بانتمائك إليه وأنت لم تهبطي بعد على أرض المطار فيه. ستتعلمين يا طفلتي الدنماركية، والألمانية، والاسبانية، والفرنسية، وستخوضين تجارب لا حصر لها، وما هي إلا بضع سنوات حتى تفتح كل بلدان العالم أبوابها أمامك لأنك تحملين جواز سفر أوروبي. سترين جمال القارات الخمس، وسحر الطبيعة، وروعة تنوع الثقافات، وتتعودين على الأمان والسلام. ولكن عندما تضعين رأسك على الوسادة، وترين حلما جميلا ستكون حلب وحدها هي مسرح الأحداث فيه. ستتعلمين، وتتعلمين، ولكن سيأتي يوم تطرحين فيه على أمك سؤالا وجوديا صعبا “لماذا اقتلعتموني من حلب؟”، ستغضبين على أمك وعلى أبيك، وتسألينهم “ألم يبق بعض الناس في حلب وقاوموا؟ لماذا رأيتم أنكم أولى منهم بالحياة، فهربتم؟ كان عليكم أن تبقوا هناك.” ستقولين ذلك مرارا ولسنوات طويلة إلى أن تصبحي بنفسك أما فتفهمين ساعتها أن الآباء والأمهات يفكرون بالأمان والسلامة لأطفالهم، ويفكرون بمستقبل أولادهم، أما الأولاد فلا شيء عندهم فوق الهوية والانتماء، والويل لمن يتحرش بالهوية والانتماء، أو يحاول أن يحددها لهم، فهم من يحددون هويتهم. ستبقين لسنوات ترسمين علم سورية وتلونينه، وتعلقينه على جدران غرفتك. وستكتبين بالدنماركية “أحبك يا سورية .. أحبك يا حلب”، وتعلقين اليافطات والصور على جدران الصالون والمطبخ، ومن يدري فقد تمر ثلاثون سنة، لن تعودي خلالها ولا مرة واحدة إلى السيدة زينب، ودمّر، وركن الدين، وقد تنسين مرتع طفولتك، حديقة السبكي، ولكن عندما يضيق صدرك، وتنزل دموعك مدرارا ستبحثين على الإنترنيت فتجدين أغنية “صيدلي يا صيدلي يا صيدلي .. بدي دوا ألها وبدي دوا إلي”. اقتلعوك من حلب، ولكن لا شيء سيقتلع حلب وبردى من قلبك، أنت لها، وهي لك. وسترددين بكل إباء كلما واجهتك المصاعب “والكاف كايدنا يندم واللام لو يتحدانا.”
سيأتي عليك حتى زمان تكرهين فيه أن الله خلقك عربية أو كردية، وفي أمة تشرد أبناءها، ولكن عندما تهدئين، ويتفتح قلبك للحياة رغم كل شيء ستنشدين لأطفالك وبنشوة المنتصر “سورية يا حبيبتي .. أعدت لي هويتي .. أعدت لي كرامتي .. سورية يا حبيبتي” …