حدثَ هذا قبل ثلاثين سنة ببغداد العباسية الجميلة العليلة حتى الآن . في ظهيرة من فوائض السنة الميلادية ألف وتسعمائة وست وثمانون وبمقهى حسن عجمي الخربة إلا من الذكريات ، استللتُ من جيبي خمساً من قصار قصصي وأعطيتهم للشاعر كريم شغيدل ورجوته أن يوصلها لجريدة القادسية بوصفه كاتباً فيها وصاحباً لمحرريها المعروفين الذين كان منهم ثامر معيوف وسلام كاظم وعلي الشلاه ويونس ناصر عبود وكمال سبتي ومحمد حياوي وجمال حسين علي ومتأخراً عبد الستار ناصر وكاظم مؤنس ، ومن مفارقات هذه الجريدة هي أن كثرة من محرريها وكتابها ينتمون إلى المدرسة الحديثة في الأدب والفن ، او هم ممن يحرثون بجوار الحداثة والتجريب في جريدة عسكرية تصدر عن وزارة الدفاع .
سلّمتُ القصص لصديقي كريم ونسيت الأمر في وقتٍ فيه الكثير من فقدان الأمل بنشر نتاجٍ لكاتبٍ ليس له نتاج أدبي باستثناء جلسات الأدب والطاولي بمقهى حسن عجمي ، وشرب العرق بحانة اتحاد الأدباء بساحة الأندلس ، وهذا ما يتيح للكاتب الإبتدائي علاقة اجتماعية مجانية مع كبار وصغار الأدباء ، ومع المشتغلين بالصحافة والمجلات الثقافية الكثيرة والمؤثرة أيامها .
لم أسأل مرةً عن مصير قصصي وفي أي درجٍ أو رفٍّ مؤجل ينمن ، حتى جاء اليوم المنتظر محمولاً أو مدسوساً بجيب الصديقين الأولين الشاعرين منذر عبد الحر وركن الدين يونس حمادة . لقد نشرت الجريدة قصصي صحبة تقديم واحتفاء لطيف كتبه القاص والروائي جمال حسين علي تحت عنوان مريح هو الواقعية الإفتراضية . ليلتها سكرتُ من دون خمرةٍ ، وعيناي مستمتعتان بمنظر المربع الجميل الذي تلبط فوقه القصص القصيرة جداً .
في اليوم التالي ، طرتُ صوب مكتبة مجاورة واشتريت ثلاث نسخٍ من الجريدة المسترجعة وزرعتُ واحدة بحقيبتي فجر رحلتي إلى وحدتي العسكرية بأثل البصرة ، وهناك طلبت من رئيس عرفاء الوحدة الظريف ، تقديم الجريدة إلى الضابط الآمر مع تزويق هذا التقديم بما تيسر من كلام يشير إلى ولادة كاتب في هذه الوحدة العسكرية ، مع أن القصص الخمس كانت اجتماعية ونفسية وليس فيها جند أو حرب . تمّ الأمر بشكل سلس وكما تمنيته إذ أرسل آمر الوحدة يطلبني ، وفي كرفانه الأنيق وقفتُ بطريقة أقل انضباطاً وأكثر تحرراً من وقفاتي الفائتات ، وتصرفت كما لو أنني نجيب محفوظ ، فحصلت على مرادي اللذيذ الذي هو إجازة مدتها سبعة أيام ، أضفتُ إليها يومين من عندي ، ولما التحقتُ ثانية بوحدتي ، تم تقديمي منزوع النطاق إلى آمر الوحدة الغاضب ، وهناك لم تشفع لي قصصي الحلوات ، فأكلتُ ثلاثة أيام حبيس سجن الجينكو ، وحلاقة شعر تامة مصحوبة بتنظيف مرحاض الأصدقاء الجند .
بعدها تراكمت السنوات ، وفقد النشر الأول طعمه ، وقبل شهر استلمتُ كتابي العاشر في القصّ والحكي ، وهو كتاب ضخم من ثلاثمائة صفحة . قلبته بين يدي لمدة دقائق هي أقل من أصابع اليدين ، ثم ركنته جانباً ، لكنّ طعم القصص الأولى ظلَّ يرنُّ حتى الآن في الذاكرة .
- info@alarabiya-news.com