كاظم الحلاق سنوات الجندية(2)

مصيرنا يسوقه القدر

 

شعرت بأنني  أعيش في سجن كبير اسمه مغاوير فرقة 23 فقررت الهروب من العسكرية. أخذت انتظر بفارغ من الصبر وقت حصولي على الاجازة الدورية لكي أغادر وحدتي العسكرية ولا أعود إليها أبدا، لكون أذا ما هربت دون اجازة سأتعرض إلى السجن وأنا ما زلت في الطريق. ثمة الكثير من المفارز العسكرية التي توقف الحافلات للتفتيش عن الهاربين. كان لدي هدف واضح في رأسي هو أن اذهب إلى مدينة العمارة وأبيع المحل ثم أتوجه إلى البصرة ومنها الفرار مشيا إلى الكويت. وهذا ما حدث بالفعل؛ أمضيت بضعة أيام لتصفية  شؤوني الشخصية في العمارة، بعت المحل الى الرجل الخمسيني الذي علّمته حرفة الحلاقة، بعدها ذهبت لأودع أصدقائي- أولهم عبدالله حازم- سائلا إياهم أن يغفروا لي إن أخطات في حقهم أو آذيت مشاعرهم، كذلك ذهبت إلى بيت عمتي وودعتها كما شقيقتي لميعة وبعض الجيران والمعارف. شعر الجميع بالحزن على فراقي، لكني قلت في داخلي عليّ أن أمضي قدما في قراري وأغادر، في الخاتمة سينتهي كل شيء الى الفراق الذي لا مفر منه.

 ظلت شوارع وأحياء البصرة موحشة ومحاطة بالخوف والقلق والترقب بعد أن هجرها أهلها بحثا عن مكان آمن في المناطق الغربية البعيدة التي لا يطالها القصف كالنجف وكربلاء والحلة والسماوة. بعض العوائل وبضمنها عائلتنا لم تنتقل. أبي كان يعتقد بأن  مصيرنا يسوقه القدر وليس لنا رأي في ذلك إذ كان يبدو مستسلما لما يختاره الله. في أيام الغياب الاولى بعد انتهاء أيام الاجازة السبعة حينما أخبرت والدي بما عزمت عليه، أيّ الفرار من الجيش، لامني كثيرا.. قال لا أحب أن أراك بهذا الوضع، كن شجاعا واقتنع بقدرك، إنها حرب وطنية ولا يهم مَنْ هو القائد، إذا كان صدام حسين أم غيره، دافع عن وطنك ولا تقم بهذه الأفعال السخيفة. لكني لم أصغ إليه وعقدت العزم على المغامرة حد التخوم القصوى. كنت أحدّث نفسي أن هذا هو جهدي الأخير وأن من الأكيد بأنني سأنال حريتي، لا أريد أن أموت الآن، لا أريد أن أقتل أحدا، إنني ضد الحرب، ضد العنف والتوحش، ضد الموت، ضد الكسل والاستكانة، ضد التدمير، ضد استغلال الآخرين، ضد الظلم والديكتاتوريات، ضد كل ما يمت بشيء للعسكرية والخضوع والمذلة. لابد أن أسافر، لابد أن أتعلم، لابد أن أتحرر وأعانق الحياة.

 

ثلاثة أيام في الصحراء

 

بعد أيام قليلة من هروبي من الجيش اتفقنا أنا وواحد من أبناء إحدى شقيقاتي وصديق ليّ أن نذهب مشيا إلى الكويت. كان الاثنان تحت العشرين بينما أنا في منتصفها. اشترينا خيارا وطماطم وملأنا قناني ماء وأخذنا معنا خبزا  واستقلينا سيارة اجرة ليلة الخميس على الجمعة إلى مزارع منطقة “أم قصر” لنبدأ رحلتنا عند اختلاط الظلام. كان علينا أن نقطع حوالي 100 كلم على الأقدام في الصحراء. تجاوزنا الحدود العراقية الكويتية ثم واصلنا سيرنا، أمضينا ليلة كاملة في المشي ثم قبيل الفجر حفرنا حفرة كبيرة في الرمل ومكثنا فيها حتى اختلاط ظلام مساء اليوم التالي. خلال النهار مددنا رؤوسنا أكثر من مرة وتطلعنا إلى رمال الصحراء الشاسعة التي تحيط بنا. عَبَرَ السماء صقر أو أكثر وأخذ يحوّم فوقنا ثم اختفى، لم يكن ثمّة شيء حوالينا سوى خيم بعيدة لبعض الرعاة. كان اسم صديقي علي ونلقبه “بالكرجي” لكثافة شعره الأسود السرح واسم ابن أختي فؤاد وكنيته”وجدي”. كنا نتمدد في الحفرة وعيوننا مفتوحة ونتكلم بصوت خفيض، وخُيّل إلينا في بعض الأوقات أننا نسمع اطارات سيارات تقترب أو وقع خطوات وأصوات أشخاص يتكلمون مع بعضهم يتقدمون نحونا لإلقاء القبض علينا، فراودنا القلق وعشنا لحظات فظيعة من الرعب لكن لم يحدث شيء .

 بعدها واصلنا مشينا حينما حل الليل،، ونحن نغذ السير فوق الكثبان كان بوسعنا رؤية انعكاس اضواء بعض السيارات وهي تنهب الشارع الرئيسي الذي يريط البلدين عن مبعدة. في صباح اليوم الثالث وصلنا حدود مدينة الجهراء الكويتية بعد أن أنهكنا التعب الشديد حيث بيت شقيقتي سلوى على مبعدة كيلومترات قليلة. أومأنا بأيدينا لإحدى السيارات المارة لكي توصلنا إلى المنطقة الا أن سائقها أخذنا إلى مخفر للشرطة، تبين فيما بعد أنه ضابط في شرطة الحدود وقد عاد من دوامه، لقد شك في ارتباكنا ومظهرنا المغبر وحملنا لقناني الماء معنا. سجنونا بضعة أيام في مخفر “المطلاع” ثم نقلونا إلى أحد السجون قرب العاصمة. ناشدناهم أن يطلقوا سراحنا لأننا ربما سنلاقي الموت في العراق إلا أنّهم لم يكترثوا لمناشدتنا. رحلونا في حافلة إلى منطقة صفوان العراقية الحدودية  ليتسلمنا رجال الأمن الذين سلمونا بدورهم إلى الاستخبارات العراقية. هناك افترقت عن صديقي على الكرجي وابن أختي وجدي، رحلوهما الى التسفيرات لكونهما مدنيين لكني بقيت في شعبة الاستخبارات لكوني عسكريا.

 بقيت بضعة أسابيع في سجن استخبارات البصرة حيث التعذيب بالضرب بالعصي واللكمات ثم رحلوني إلى سجن رقم واحد الرهيب في بغداد ومنه إلى سجن أربيل ومنه إلى سجن وحدتي العسكرية في منطقة “ديانا”. بقيت سجينا هناك لأقل من سنة. حينما كنت في سجن فرقة مغاوير 23  أخذت أراجع مستوصف ديانا العسكري بصحبة أحد الحراس ثم أخذوا يحيلونني إلى مستشفى أربيل العسكري ومنه إلى مستشفى الرشيد العسكري، بعدها قدموني إلى محكمة عسكرية واكتفى الحاكم بفترة التوقيف وحررني من السجن بعد أن اطلع على التقارير النفسية.

مستشفى أربيل العسكري

 

في مستشفى أربيل العسكري كان ثمّة اختصاصي برتبة عقيد، في كل مرة أذهب إليه بعيادة أقول له إنني مطارد، هناك من يلاحقني حينما أذهب في إجازة إلى عائلتي، فكان يتحدث معي بلطف وتفهم ثم يعطيني اجازة. وفي مرة أخرى قلت له: أخذ الأشخاص يلاحقونني وأنا أتنقل بين المحافظات حينما أريد أن التحق بوحدتي العسكرية، سألني كيف يلاحقونك؟ قلت: إنهم ينتظرونني في الكراجات وحين أصعد السيارة يصعدون ويجلسون ورائي ليتجسسوا على أفكاري ونوايا قلبي، قال: إذن ابني اصعد في القطار في المرات المقبلة وهو يمنحني اجازة. عدت إليه في مرة تالية وقلت له: إنهم أيضا جاءوا ورائي إلى محطة القطار ودخلوا الى العربة نفسها التي كنت أجلس فيها، انتابت العقيد نوبة من الغضب، دفع كرسيه المتحرك إلى الوراء وأخذ يحرّك يده بعصبية، صارخا بي:” ماذا تظن نفسك، هل أنت جيفارا؟” مَنْ انشتاين؟ هتلر؟ حتى تترك الناس مشاغلها وتلاحقك، ألا تعرف بأنك جندي بائس، جندي لا غير، وهل الناس ليس لديها أعمال غير مراقبتك لمعرفة أفكارك ونوايا قلبك؟” وهو يعطيني اجازة. ولما عدت له مرة أخرى أدخلني الردهة النفسية  ليزرقوني بحقن المودكيت المؤلمة (التي تجعلني أترنح لثلاثة أيام) ومكثت هناك أسبوعا أعطاني بعدها اجازة لمدة شهر، مدوّنا في ذيلها “يراجع بعدها”. 

في أحد الأيام ذهبت إلى “قلم” وحدتي العسكرية وطلبت منهم أن يسجلوا لي عيادة لأذهب إلى المستشفى، لكنهم رفضوا طلبي، خطوت إلى الحمام وحلقت شعر رأسي وشاربي وحاجبيّ  وذهبت إلى ساحة التفتيش بينما السيجارة بين شفتي، كان الآمر يفتش الجنود المصطفين أمامه، حينما رآني نظر إلى الضباط من حوله بامتعاض، من الأكيد كنت أبدو ضد كل ما له علاقة بالنظام والعسكرية واطاعة الأوامر. أشار إلى أحد الضباط أن يسجّل لي عيادة ويرسل جنديا معي إلى المستشفى. من المؤكد كنت أبدو أقرب إلى المسخ منه إلى الإنسان، كان أنفي ينسد دائما بسبب الآرتين الذي كنت أتعاطاه ويصبح تنفسي صعبا، فأمد اصبعي لأنظف منخري أمام الجالسين فيديرون وجوههم مشمئزين من القذارة. حينما وصلنا  المستشفى هناك كانت مجموعة من الفتيات يجلسن مع ذويهن، وما أن رأينني حتى أعرضن عني بوجوههن رعبا أو قرفا فأحالوني إلى مستشفى الرشيد في  بغداد.

Facebook
Twitter