لن تتحق ارادة الجماهير الا في ملكيتها للثروات والانتاج ووسائله ان أية حركة سياسية تستهدف تغيير نظام الحكم بسلطة أخرى غير سلطة الشعب، هي عبارة عن انقلاب أداة ديكتاتورية على أداة أخرى مثلها.. أنها لا تعدو مؤامرة سياسية يحركها غرض واحد هو الاستيلاء على السلطة. ان تغيير أشخاص الحاكمين، بحاكمين آخرين – حتى لو كانوا ثوريين أو تقدميين-، هو عمل انقلابي سياسى تقليدي مألوف، في الصراع بين أدوات الحكم المختلفة، وهي تتجاذب أطراف المجتمع، تحاول كل واحدة منها الاستئثار بحكمه، وتوظيفه لخدمة مصالحها الطبقية. إن الثورة لا يمكن لها أن تكون مؤامرة سياسية،ولا انقلابا عسكريا يجلب أداة حكم ديكتاتورية جديدة بدل أخرى يدمرها، فالثورة هي عمليات التغيير الجذرية في بنية المجتمع البشري، السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، فهي تهدم المجتمع الفاسد وتدمره، وتبني مجتمع الثورة الجديد السليم. لقد سجل التاريخ باهتمام خاص الثورة الفرنسية 1789 م. دون غيرها من الثورات ومن التغييرات السياسية والانقلابات والاضطرابات، ذلك أنها دمرت بنية المجتمع الإقطاعي الملكي في فرنسا بكاملها، وأقامت على أنقاضها المجتمع البرجوازي المعاصر، بقيمه ومفاهيمه وعلاقاته المعروفة، في حين تلاشت قيم ومفاهيم وعلاقات مجتمع الاقطاع الملكي. وبمجرد اندلاع الثورة الفرنسية هبت الجماهير في فرنسا دون سابق اتفاق بينها، فاستولت على قصور الأمراء والاقطاعيين واملاكهم، واقتحمت السجون، وكونت لجانا شعبية في كل مكان من فرنسا لتسيير أمور البلاد، وتنظيم حركة الثورة. ورغم أن الثورة الفرنسية قد انتكست بعد ذلك. فبرزت الملكية البرجوازية من جديد، وسيطرت أدوات الحكم الدكتاتوري في الجماهير من جديد، الا أن عصر الجمهوريات كان قد تأسس منذئذ، فترسخت بنية جديدة للاجتماع البشري. وذلك وحده ما استحقت الثورة الفرنسية من أجله اهتمام التاريخ واهتمام دارسي الاجتماع الانساني. أما أن يقوم جناح اليسار في حزب، بانقلاب ضد جناح اليمين في نفس الحزب، أو العكس، أو يقوم حزب بانقلاب على حزب آخر.. أو أن جماعة عسكريين من رتبة معينة يقومون بالانقلاب على جماعة أخرى من رتبة مختلفة.. فان ذلك كله لا يعتد به، ويعد مخالفا جذريا لمفهوم الثورة.. وتسمى مثل هذه الحوادث والحركات السياسية والعسكرية انقلابا، باعتبارها صراعا محدودا على السلطة تخوضه أدوات سلطوية تقليدية، حتى لو قام بها ثوريون وتقدميون، ضد رجعيين أو ديكتاتوريين. حيث لاشك في أن يكون النظام السياسي الجديد أفضل من سابقه، فالقضاء على الرجعية والحلول محلها في السلطة لا يعنى أكثر من حدوث انقلاب على نظام الحكم، وهو أمر عادى ومألوف، وليس ثورة ولا علاقة له بها. ان الثورة تندلع ضد أوضاع فاسدة، تجسدها قواعد خاطئة وعلاقات ظالمة، فلا تكون انتكاسا أو ردة بالمجتمع. بل تشكل في تاريخه الاجتماعي قفزة هائلة الى الامام. بتدميرها للقواعد الخاطئة والعلاقات الظالمة، وبنائها مجتمعا عادلا تقدميا، لمصلحة جميع أفراده، خال من كل مظاهر الاستغلال والقهر والتخلف. وإن القوانين التي تصدر في ظل أوضاع ظالمة، انما تصدر لتنظم وتصيغ تلك الأوضاع المجسدة واقعيا في قالب قانوني، لتجعلها مستساغة. ان العلاقة بين رب العمل السيد وأجيره العبد. صاغها القانون في نص يعترف به العالم المعاصر كله، هو (قانون العمل). الذي أصبح مرجعا قانونيا يحافظ على استمرار العلاقة ذاتها دون تغيير. أي ان الواقع الظالم الذي صيغ قانونا، صار يستمد استمراريته من القانون المستمد منه أصلا. فلو طلب العبد اعادة النظر في العلاقة الظالمة التي تربطه بسيده، فإن العالم كله سيذكره بنصوص قانون العمل العتيد، الذي بمقتضاه يتنازل العبد عن إنتاجه لصالح سيده مقابل أجرة زهيدة. وكذلك (القانون التجاري) بعد أن كان تعبيرا عن حالة فساد معينة صار ينظم العلاقة بين صاحب المتجر المستغل وبين أصحاب الحاجات، حيث يسمح هذا القانون لمن يريد استغلال غيره أن ينصب مصيدته التي يسمونها (متجرا) ليضع بداخلها حاجاتهم الضرورية فيتمكن من اقتناصهم، لمص دمهم وعرقهم بلا أي جهد يبذله، ولا أي حق منطقي له عليهم، سوى حصوله على رخصة بذلك، وفقا لنصوص القانون التجاري. ان القانون صيغ أصلا استجابة لأوضاع استغلالية معينة، ان جميع القوانين السائدة في العالم.. إنما هي مجرد تنظيم وصياغة لحالة الفساد الموجودة على الطبيعة، في العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحتى الحرب التي هي أخطر جنون لدى الإنسان، تمت صياغتها وتنظيمها في نصوص قانونية تعرف باسم.. (قانون الحرب).. فالحرب بالرغم من أنها قتل وتدمير وهمجية إلا أن المشرعين قد وضعوا لها قانونا. وحين تقوم ثورة ضد أوضاع التخلف والاستغلال والعبودية وتدمرها وتقيم المجتمع الجديد المنشود، فإن على المشرعين أن يصيغوا أوضاع العدل والتقدم والحرية الجديدة قوانين ترسخ هذه المعطيات الجديدة في حياة الأمم والأفراد. وهكذا فإن أوضاع الملكية الجديدة ستأخذ طريقها الى التقنين لتنتهي بعد ذلك الملكية الاستغلالية الرأسمالية، وتقر الملكية الاشتراكية قانونيا، بحيث يكون بمقدور أي مواطن أن يأخذ حاجاته من أرض المجتمع على قدر جهده، دون أن يسخر غيره في العمل لصالحه، حيث ان الارض ليست ملكا لأحد يحتكرها عن الآخرين، ولكنها ملك للجميع، يملكونها ملكية انتفاع بالقدر الذي يستطيعونه، وتكون هذه الملكية مقدسة لا تمس ما دام قادرا على استغلالها لاشباع حاجاته. وهذا النوع من الملكية يعتبر جديدا وغير معروف بين أنواع الملكية التقليدية المتعارف عليها، التي هي عبارة عن الملكية البعضية الاستغلالية التي يستحوذ فيها عدد من أفراد المجتمع على الثروة الوطنية، ويستغلون بقية أفراد الشعب خدما وعبيدا لديهم. أو الملكية الحكومية حيث تملك الدولة كل الثروة سواء أكانت ارضا زراعية أو مصانع أو غير ذلك في حين تعد الملكية الخاصة حراما في ظل هذا النظام، فيعمل الناس بعد ذلك خدما وعبيدا لدى الحكومة من أجل قوتهم. غير أن النظام الاشتراكي الجديد يعتبر الملكية الخاصة للانتاج الخاص مقدسة، وبالتالي فإن الملكية الخاصة لأدوات هذا الإنتاج تعد مقدسة أيضا بشرط عدم استخدام الغير بأجرة أو بدونها، لأن معنى ذلك هو فتح سوق العبيد -الذين هم الأجراء- من جديد، بعد أن انعتقوا في ظل النظام الاشتراكي الجديد الذي منح الحق للجميع في أن يملكوا ضروريات معاشهم دون اللجوء الى بيع جهدهم أو التنازل عن إنتاجهم لمصلحة آخرين. حيث ان النشاط الاقتصادي ذاته في ظل الاشتراكية هو لتحقيق غاية واحدة وأساسية هي اشباع حاجات المنتجين الذين يقومون بهذا النشاط، ولذا فان المجتمع الاشتراكي الجماهيري لا يسمح بالقيام بالنشاطات الاقتصادية الزائدة عن حاجة أفراده أو الزائدة عن حاجة الأفراد القائمين بهذه النشاطات. ان السماح بمثل هذه النشاطات في النظام الرأسمالي هو السبب في عمليات تراكم الاموال وتركزها في يد طبقة تضع يدها على جميع انواع النشاط الاقتصادي بغرض جني الأرباح، فيؤدى ذلك الى حرمان أفراد المجتمع الآخرين من حاجاتهم الأساسية في أكلهم وشرابهم وسكنهم و أداة ركوبهم.. الخ بسبب استيلاء الاستغلاليين عليها وتسخيرها للتحكم في الآخرين، وحين يتم التحكم في الأفراد الآخرين عن طريق حاجاتهم فان صراعا تاريخيا ينشأ عندئذ لا ينتهي إلا بتحرر هؤلاء من عبودية الاستغلال الرأسمالي الذي يطحنهم. ان حرية هؤلاء الأفراد مرهونة بتطبيق الاشتراكية الجديدة والعمل بمقتضى قواعدها العلمية العادلة. فحين يكون الفرد قادرا على توفير حاجاته واشباعها بنفسه، فإن له أن يقوم بذلك بمفرده دون أية قيود. فينال انتاجه كاملا وتسمى تلك ملكية فردية خاصة، بالذين يعملون لأنفسهم دون أن يستغلوا أحدا معهم في الإنتاج. أما حين يحتاج عدد من المنتجين للعمل معا ليوفروا حاجاتهم جماعيا، كأن يعملوا بمصنع او بمرفق عمل يصعب أن يستغله فرد واحد، فإنهم سيكونون شركاء في الانتاج الذي ينتجونه بالعمل معا، ويملك كل منهم نصيبه من الإنتاج ملكية مقدسة، ويسمى هذا النوع من الإنتاج، انتاج اشتراكيا. أما النوع الثالث من الانتاج الاشتراكي فهو الخدمة العامة، حيث يقدم بعض الأفراد عملا ضروريا للمجتمع مثل الخدمة الطبية، أو التعليم.. أو المهام الإدارية عموما، فان على المجتمع الاشتراكي أن يشبع حاجات هؤلاء الأفراد الذين يقدمون له خدمة ضرورية يحتاجها، فيوفر لهم سكنهم وركوبهم وضروراتهم الحياتية، ولو على شكل راتب مالي يتقاضونه. ويبقى جزء من أفراد المجتمع غير قادر على تأدية أي عمل وبالتالي يعجز عن توفير حاجاته بنفسه، بسبب عاهات دائمة أو مؤقتة وهؤلاء هم العجزة الذين لا يقدرون على القيام بأي عمل فردى أو جماعي بأي صورة، فإن المجتمع الاشتراكي الجديد ملزم إنسانيا واجتماعيا وعلميا بضمان حياتهم وتوفير حاجاتهم.
ان هذه الصورة التي سيكون عليها المجتمع الاشتراكي الجماهيري الجديد، هي التي ستلهب مشاعر العمال الأجراء في العالم المعاصر، ليكتشفوا عن طريقها فساد القوانين المطبقة بحقهم، وظلم العلاقة السائدة بينهم وبين أرباب العمل، فتندلع ثورة العمال من داخل مرافق الإنتاج المختلفة، حيث يضعون ايديهم على المنشآت الإنتاجية والمصانع، ويديرونها بأنفسهم منتزعين إنتاجهم من يد الاستغلاليين والسارقين الذين كانوا ينهبونه من بين أيديهم. ان عصرا جديدا يهل على العالم يومئذ بانتصار الشغيلة في ثورتها حيث لا أجراء بعدئذ.. لا عبيد.. لأنه لا استغلال ولا سرقة بعد أن يعود الإنتاج لأصحابه الذين أنتجوه. ويصبح توفير الخدمات العامة الضرورية من صحة وتعليم وتسليح.. الخ.. يتم بتقديم المنتجين لقيمة معينة من إنتاجهم عن طيب خاطر، واقتناع تام، بارادتهم الحرة، للمجتمع ليتمكنوا من الاستمتاع بتلك الخدمات. دون الحاجة الى فرض الضرائب والاستقطاعات المختلفة، ودون الحاجة الى مصادرة الانتاج. ان الصراع الدموي على السلطة لابد أن ينتهي الى نهايته الطبيعية الوحيدة وهي قيام سلطة الشعب. ولكي تكتمل سلطة الشعب لابد أن يتحرر الجميع من كل القيود ويتساوون قيميا وماديا. فالمساواة لا تكون حقيقية، كما لا تستقيم الديمقراطية في وضعها الأمثل دون تساوى الوضع الاجتماعي لجميع أفراد المجتمع. ان الثورة الاجتماعية تكون أمرا ملحا وأساسيا لتدمير الظلم الاجتماعي الذي يعانيه الأفراد في مجتمعاتهم لمختلف الأسباب. ان العمال مضطرون لتفجير ثورتهم للحصول على حقوقهم.. وكذلك الطلاب، يدفعهم وضعهم الاجتماعي لتفجير ثورتهم على الوضع الرجعى التقليدي الذي يقيد ابداعهم، ويشل قدراتهم على التغيير الثوري في ظل الوضع الاشتراكي الجماهيري الجديد. كما أن جماهير النساء ملزمة بتفجير ثورتها لانتزاع الحقوق المغصوبة، واخراج المرأة من الوضع العبودي الذي تعانيه الى وضع الحرية والمساواة في ظل حياة إنسانية سعيدة ومتكافئة لجميع الأفراد. واذ يتساوى جميع الناس فإن المجتمع الجماهيري يكون قد أصبح واقعا معاشا بالنسبة لأفراده حيث لا فوارق.. لا استغلال. لا عبودية.. لا تخلف.. وتبقى الثورة الشعبية هي الطريق الوحيد للوصول الى تحقيق هذا المجتمع. ان أداة تفجير الثورة الشعبية هي لجانها فعن طريقها ستتحرض الجماهير الشعبية لتعي واجباتها التاريخية في تدمير المجتمع الرجعى القديم واقامة المجتمع الجماهيري السعيد. ان الصراع على السلطة سيتوقف عندئذ، فالجماهير قد انعتقت نهائيا من قيود القهر السياسي وضغط الحاجات المادية