أشتهي الليلةَ أن أكتبَ مقالاً ، لا يتسبّب في تلف العصب وزرع الشيب على صدري . عندي قهوة سادة سأغليها وأستعيد معها دِلال جدّي أحمد ، ومؤخراتها السود تُشوى على جمر الديوان الصاخب . لجدّي عشر شامات مرشوشات فوق وجهه ورقبته ، واحدة منها نامية بحجم حبة حمّص . جدي الطيب المسالم البشوش الضحّاك ، كان سعيداً برقصة هذه الندب السود فوق جسده الضخم ، وكانت الناس تحسده عليهنَّ وتقول له ، مبارك أنت يا حاج وتلك الشامات ستكون قناديل قبرك المجيد . سأهجر جدي وأحسو بعض قهوتي المرة ، وأُصوب منظاري نحو الزقاق وقنديله المخنفس الوحيد . ألسماء بيضاء بعزّ الليل ، وتلك بشارة ثلجٍ سيتهاطل بعد ست هنيهات وبرهة . لا جديد جوهرياً على المنظر ، باستثناء صوت ماطور شفط الماء من مواسير البلدية ، وتصعيده إلى خزانات قائمة على سطح البناية . ألناس التي على بعض نوم منزعجة من أنين الماطور ، أما أنا فمستأنس ومرتاح لأنني كنت أنصتُ لهذا الصوت المشجن ، وأنا منطرح على فراشٍ صيفي لذيذ فوق سطح دار عتيقة .
جدّي الذي مات قبل أربعين سنة هو أبو أمي بهية ، وليلتها كنت من المصدّقين بأنّ شامات جسمه ستضيء مدفنه الموحش ، لذلك بقيت سنيناً مبتهجاً بشامةٍ غافية قرب منخري الشمالي الأفنص ، قبل أن تتلوث تلك الفرحة العظيمة بفايروسات الوعي المكتسب . شامتي العزيزة تنزلق الآن صوب ساقيةٍ مرسومة على وجهي ، تشبه تابوتاً أنيقاً بقنديلٍ باهت . في خاصرة الزقاق ، ثمة نخلة هندية عنقاء تهزّها الريح بقوة ، فتبدو حركة سعفاتها العنيفة ، مثل رقصة شهية تصنعها غجرية ساخنة في أعراس الفقراء .
لديَّ قفصٌ معلق بسقف الشرفة ، فيه إناء ماء قليل ، وحبّات رز عتّقتها الأيام ، لكنْ لا طير يغنّي ولا جناح يعزف . منذ سنة مات الكناري الأصفر ، وظلّ القفص مصلوباً حتى إتمام الحكاية . في زاوية عزلاء من الشرفة الضيقة ، سأنظر بحسرة إلى خمسة أصص حجرية .
نبتات ذابلات مثل وجه فارسٍ عائد من معركة فائضة .
على عتبة بقايا المشهد ، زرعَ جاري الصالح ، كاميرا على جبهة داره ، مانحاً اللصوص الأوغاد فرصةً هائلة ، من أجل العودة إلى أطفالهم سالمين .