ثمة سوق عملاقة لبيع الملبوسات والمركوبات المستعملة تقع وسط عمّان بمنطقة اسمها سقف السيل.
السيل كان نهيراً حقيقياً قبل أن يشحّ ويصير ناقوطاً ويسقف بالإسفلت القاسي.
أغزو المكان مرةً كل ثلاثة شهور ربما، شارياً أو متفرجاً على وجوهٍ شائهةٍ طيبة مثل سلعٍ عتيقة.
أشتهي جداً أن أحكي لكم سيرة قميص شتويٍّ أحمر كنت ابتعتُهُ من هناك قبل عشر سنوات.
ما زال متيناً ومشعّاً ويرفض أن يموت. كلما فتحتُ خزنة الملابس، وجدته أمامي معلّقاً راسخاً وقوراً مهيباً. أنا أفهم لغـته وهو يفـهـم رطـيـني.
أكاد أسمعه يقول لي: شكراً يا أخي، فلقد عشتُ معك زمناً طويلاً، ورائحة عَرَقِكَ كانت أطيب عطرٍ شممته.
تأسرني فكرة محاكاة سيرة هذا القميص. تلٌّ من الأسئلة تمطر حول أول شخص لبسهُ.
ربما كان شابّاً أميركياً مريضاً قتل عشرة عراقيين. قد يكون عاشقاً فرنساويّاً خبّلتْهُ كاترين دينوف. بباب الإحتمالات، لا أستبعد أن يكون طليانياً من حفدة فييتو كورليوني.
حمرة القميص العزيز شيوعية قوية، لكنني حذفت من لعبة الاحتمالات أن يكون مرتديه أول مرة هو شاب شيوعي من القوقاز.
الشيوعيون بخلاء أو متدبّرون، حتى أنّ رزقنا كان يموت وبضاعتنا تبور على عتبة أسبوع الفيلم السوفيتي بسينما بابل البغدادية العظيمة، في سبعينات القرن الفائت المبهجة.
كان واحدهم يشتري من عربانتي العزيزة، أقلّ وزنٍ ممكن من الكرزات المكسرات. قلة منهم تدخّن، وإن اشتروا زجاجة سفن آب فإنهم يقسّمونها على ثلاثة أفواه.
عندي اللحظة فكرة معقولة. قد يكون صاحبه الأول مجرماً يشبه البطل في “الجريمة والعقاب” زار امرأة عزلاء وذبحها واستولى على فتات مصوغاتها، فتلطّخ قميصه بدمهِ ودمها، فعاد إلى البيت وغسله، لكنّه شكّ واستراب في نومة قطرة من دم المسكينة، ما زالت تلبط في ثنيةٍ، فقرر التخلص منه وأودعه حلق حاوية الزبل، ومن هناك وصل إلى سقف السيل فاشتريته أنا.
عنـدي رغـبة هـائلـة جـداً فـي أسـطرة هـذا القـميص الأحمر وإيصـالـه حـدَّ الخــرافة.
سأُخرجه غداً وليس بعده وأنقله إلى صانع الإطارات ليصير لوحةً مدهشة قد يبيعها أحفادي بمئة وستّين مليون يورو وهو تمام السعر الذي بيعت به على دكة مزاد البطر، لوحة نساء الجزائر من خلق بيكاسو.