في ذكرى رحيله السابعة هادي السيد نساج الاساطير الجميلةكاظم حسوني

ما يميز هادي السيد تمكنه بدراية من اكتشاف الجوانب الكاريكاتورية في الشخصية بأعتماد ذائقته الخاصة واعطاء نفسه حقاً بتشكيلها او اجتراحها، ثم شحنها من زوايا مخيلته بكل ما يرغب به من رسم سلوكها وحركاتها، وحدس كلماتها، انه يلتقط من احداث الحياة اليومية ماهو مفارق للواقع، فلديه مخزون من خيال ملتهب يدفعه لاعادة تركيب هذه الشخصية الواقعية او تلك بأجادة كبيرة،واستعداده لرواية كل الاكاذيب، حولها ببراعة، بوصفها حقائق ، وكأن عمله صناعة الأكاذيب ، لكن في اطار له سمات الابداع الحقيقي ، فكل من التقاهم وصادفهم هادي لمعظمهم تصاوير فنية ، بعضهم خط صورهم بريشته في لوحاته وتخطيطاته المتروكة في بيته بأهمال ، والآخر رسمها واحتفظ بها في متحف ذهنه ودفتر حكاياه ، فلكل واحد من اصدقائه ومعارفه صورة كاريكاتيرية صنعها بآلية التقطيع والمونتاج والفلاش باك معيداً تشكيلها وفق رواءه ، وله رواية حكاية او حكايات عنه، يأخذ قصها بأسلوبه الآخاذ ، عندما يلتقي بشخص يعرفه او وسط حلقة الاصدقاء في المقهى والاماكن الاخرى ،، ولفرط غرابة حكاياته وسحرها ، تظل ملامح الصورة الساخرة غالباً عالقة في اذهان مستمعيه ، حيث يمنحها شكلاً خاصاً ، ويجعل لها مذاقاً ، ويكون الشخص المروي عنه بطلا لحكاية فيها اثارة ، قد تتخذ من بعد بعداً اسطورياً.
والأدهى من ذلك قدرته على جعل الاسطورة التي ينسجها ملتحمة بالواقع ، ففي مصنعه السردي نلتقي عادة بالاساطير والغرائب القريبة من عالم (ادغارالن بو) وكل من يحاول ان يعيد رواية حكاياته لابد ان يسقط في النمطية والرتابة وهو ما حصل للعديد من مقلديه ، لأنه اي هادي يعرف كيف يصنع لها مذاقاً خاصا ، ويشحنها بالحيوية والسحر والحضور ، كأنه يرى الآخرين او يتمثلهم جميعاً عبر صورهم المتشكلة في داخله ، او من خلال تجسيد ملامحهم في لوحاته وتخطيطاته ، فالناس في نظره مدموجون في اتون واقع شرس ،، والمفارقة اننا حينما نلتقي ابطاله بصورهم الشخصية الحية ، قد لانحبهم او نستطيع فهمهم ، الا اننا عندما نستدعي في اذهاننا حكاياتهم وصورهم الكاريكاتورية التي ابدعها هادي كون لها نكهة ومعنى وقوام مختلف فتبدو الوجوه جديدة ، ليتجلى لنا البون الشاسع بين الصورة الحياتية والصورة الابداعية الخلاقة التي صنعها هادي لهم

***
رغم رحيله منذ اعوام لكن صورته تتراءى في وجداني ، صورة فنان وصديق ، خاصة انه ترب طفولتي ، ورفيق صباي ، ولما كبرنا اختلفت بنا سبل الحياة،ولم تختلف بنا سبل الفكر، وصداقتنا سحرها لايزال، وجاذبيتها قائمة، وظل هادي السيد جميلاً في نفسي، احسه مندمجاً بأسطورته التي صنعتها حياته القصيرة العاصفة. كنت اراه في ايامه الاخيرة، اكثر نحولاً، يبحث في الوجوه عن الاصدقاء، ملامحه تحكي ، شفتاه ترتسم عليهما عادة ابتسامة او ترتجفان من تلاوين الألم. وان تجده صامتا لوحده يمكنك التنبؤ بأنه يرسم في ذهنه شيئاً وهو يستعيد مشهداً او يخطط وجهاً، هكذا يكون منغمراً في عالمه اينما كان، هادي السيد منذ رأيته فنان بالسليقة، ساخر الطبع، يطلق النكتة بأرتجال وعفوية، ورغم حزنه ووحدته، ترى غالباً حوله الاصدقاء كونه شخصية مؤنسة مرحة، ضاحكة، خفيف الدم، مثقفا، لبقا، وحكاء جذاب، ان التقيته اول مرة تظل صورته مطبوعة في خيالك تود ان تلقاه ثانية، وان حدث سيروي لك طرائف ونكات عن اشخاص قد لاتعرفهم، لكنها طرائف عذبة يبتكرها وهو يتحدث ، كأنه يرويها عن معرفة حية، يخلق لها مناخات مناسبة ليكسبها روحاً والقاً ،، واحسب ان ولعه المبكر في مراقبة ورصد حركات الناس وسلوكياتهم ، وحفظ تعابيرهم في الكلام وردود افعالهم ، ومتابعة اطوارهم ، ورسم سحناتهم ، هو الذي نمت لديه طاقة الخلق ، كأنها المهنة التي بدأ حياته بها ، متخذا من كل ذلك مادة كاريكاتورية لتختطيطاته وحكاياته على حد سواء . حكاياته التي تمثل صورة فذة في الأدب الفكاهي الساخر . وهي تجري على لسانه ببراعة الحكاء الماهر ، فلو قدر لأحد او لهادي نفسه تدوين هذه الحكايات لحصلنا على امتع كتاب او كتب من الادب الفكاهي الساخر . ما من احد يراه كيف يحكي ويسخر وينكت الا ويأخذه الامتاع والنشوة والضحك ،واذا حدث والتقى مصادفة باصدقائه ممن يجيدون صناعة النكتة فأنه سرعان مايشتبك معهم في مبارات التنكيت ثم ما يلبث ان يلف على اصدقائه معلقاً على حركاتهم وكلماتهم وهو يفيض بالمرح ، حتى تضج المجموعة كلها بضحك متواصل

****

كنت وما زلت اعتقد انه كان يعمل ذلك لانقاذ روحه المعذبة واعادة الاعتبار اليها وتخفيف كاهله من تراكمات الاخفاق وانطفاء احلامه ، اذ خسر الشيوعية اثر مطاردات السلطة له وحرم من اكمال دراسته في كلية العلوم ليزج في الحرب ويكابد اهوالها فوق قمم الجبال، ومعاناته الدائمة من عنف سلطة ظالمة، من هنا كان نزوعه الى تأكيد طاقته وتنميتها فراح يكافح ليفسح لنفسه مكانا يستطيع ان يعيش فيه حياة الخيال بدلا عن واقع خسر المعركة فيه وبات يشكل خطرا عليه ، فعمد الى مواجهته بجسده النحيل وما يختزنه من طاقة تخيلية ، اخترقت المألوف لتشييد اكثر الصروح ضخامة من الحلم! تلك الموهبة التي لاتقف عند حد وجد فيها عظيم اللذة لاشباع مزاجه وتوسيع عالمه ، والتحليق في السماوات ، اذ ان فداحة خسائره اثمرت ابداعا هو الخيال الذي بات يشكل معنى جديدا لحياته فأستطاع ان يزرعه في جميع حواسه بتقمصه الادوار وتدفقه اللغوي وحكاياته التي عادة ما تأخذ منحى حميماً اكثر التصاقاً في اعماق المستمع ليرتقي معه على بساط الريح ، وعند ذروة الحلم تجده بخبرة الحكواتي الساحر بارعاً لا تملك الا ان تحلق بصحبته وانت تطالع وجهه الناحل كأنه استحال الى كائن اثيري يكاد يشف من الوجد ، وصوته الناطق بكل العذاب ومالست تدري ما تفيضه قريحته من احداث ومتاهات يسبغ عليها الكثير من السحر حينما يدخلها في غبش مخيلته فتنغمر فيها لتنمحي ملامحها ، فتنتشي بذلك مهما كان مستوى الالم ، ولعل ما يسرده ليس الا شتاتا من حلم او شعر او وهم لكنك تعيشها وتصغي اليها بعمق وربما بدهشة ، لان هادي مصنوع من مخيلة، مخيلة جامحة ، وحكاياته اسفار طافحة بدموع مأساته يقصها عليك بقدر كبير من كوميديا سوداء وقدر من المرح ، لا اتذكر مرة تحدثت معه الا واكتشفت انه يحلم لكنه سرعان ما يجذبني لأعوم في حلمه ، وحين يغادرني اجد انني كنت احلم! فالحياة لديه ماهي الا خيال والواقع محض وهم ، لذا استبدل تخطيطاته وكتاباته بريشة خياله، هجر اللوحات المعلقة، واتخذ الكون لوحة له ، اختار ان يكون فنان افكار ساخرة ، مفضلاً حريته على كل شيء فاقام عالما خياليا كي يكون باستطاعته نفي الواقع والتشفي منه ، عبر ابتكار فضائه الخاص الذي يتقنه ويملكه هو وحده متخذا منه ستارا يحتمي به ، هادي كما اعرفه امتلك اكثر من موهبة لكنه لم يأبه لها ويطورها لأنه يرى فيها نوعاً من التقيد لحريته فالفن التزام بما يتطلبه من عناء وصبر وتفرغ ،والاعمال التي مارسها في اوقات متفرقة سرعان ما غادرها اذ ان مهنته الا تكون له مهنة! ولماذا يرغب في الاسقرار وهو الذي لايرغب في ان يمتلك شيئاً ولا يريد التمسك بشيء فكان ينحل وكلما نحل تاكل جسده اتسعت ذاته وتعاظم خياله ، فكان ينحل ويزداد توهجا وحلماً حتى مات حالماً .

Facebook
Twitter