مع تسويغ رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري لفكرة اقامة اقليم (سني) في العراق، واعلان تبنيه لهذه الفكرة مع احتدام العنف والعنف المضاد والعمليات العسكرية في اكثر من ثلث مساحة العراق، وهو اعلان لم يجرؤ سلفه اسامة النجيفي على اشهاره، تعود ماتسمى بازمة النظام الفيدرالي المقر دستوريا في العراق الى الاحتدام، نتيجة انزياحات بعض الكتل السياسية المبرمجة (خارجيا) الى خيار الاقلمة للخلاص من ما تسميه بمركزية السلطة، وواحدية اتجاهها، والتهميش الذي عاناه ابناء بعض المحافظات، وعودة نغمة الاجتثاث السياسي الظني في المقام الاول، وشيوع قاعدة اخذ الانسان بجريرة ماضيه او بجريرة غيره خلافا للقاعدة الاسلامية المعروفة (ولاتزر وازرة وزر اخرى) اضافة الى غياب التوجه المنهجي الواضح للحكومة على اصعدة السياسة الداخلية والاقتصاد والبناء والخدمات، وماكان لهذه الازمة ان تكون، لو ان جميع الاطراف تعاطت منذ البدء باخلاص تام بعيد عن اشتراطات الغازي الاميركي على وضع دستور مفخخ يضع العراق دائما على سطح صفيح ساخن، وبعيد عن الانويات الحزبية والفئوية والعرقية والطائفية عند الشروع بكتابة الدستور، اذ ان ثمة حقيقة لايمكن لاي منصف تجاهلها قد اطبقت باصابعها على خناق الذين كلفوا باعداد الدستور والجهات التي وقفت وراءهم وتحكمت بادائهم، اضافة الى القصور المعرفي عندهم، وجهلهم الوقائع والمؤديات التاريخية لكتابة الدساتير في التجارب الدولية القرينة او الشبيهة، وضمور الرؤية الستراتيجية بعيدة المدى عن زمن كتابة الدستور وارهاصات ظرفه وتخوفات وتحسبات البعض من التهميش المستقبلي او الانحسار الجماهيري او غيرهما مما يصعب حصره على الاصعدة الذاتية والفئوية والمجموعاتية.
فالفيدرالية التي كان البعض عرابها الاول عند كتابة الدستور وغدا اليوم عدوها الاول (حزب الدعوة الاسلامية مثلا) تعني في بعض الفقهيات القانونية المشاركة السياسية والاجتماعية في السلطة، وذلك من خلال رابطة طوعية بين أمم وشعوب وأقوام، أو تكوينات بشرية من أصول قومية وعرقية مختلفة، أو لغات أو أديان أو ثقافات مختلفة ، في نظام اتحادي يوحد بين كيانات منفصلة في دولة واحدة أو نظام سياسي واحد – مع احتفاظ الكيانات المتحدة بهويتها الخاصة من حيث التكوين الاجتماعي، والحدود الجغرافية، واللغة والثقافة، والدين إلى جانب مشاركتها الفعالة في صياغة وصنع السياسات والقرارات، والقوانين الفيدرالية والمحلية – مع الالتزام بتطبيقها – وفق مبدأ الخيار الطوعي، ومبدأ الاتفاق على توزيع السلطات والصلاحيات والوظائف كوسيلة لتحقيق المصالح المشتركة، وللحفاظ على كيان الاتحاد(1).
وتعني عند بعض ثان : نظاما قانونيا يقوم على أساس قواعد دستورية واضحة تضمن العيش المشترك لمختلف القوميات والأديان والمذاهب والأطياف ضمن دولة واحدة تديرها المؤسسات الدستورية في دول القانون، وهي نظام سياسي من شأنه قيام اتحاد مركزي بين مقاطعتين أو إقليمين، أو مجموعة مقاطعات وأقاليم، بحيث لا تكون الشخصية الدولية إلا للحكومة المركزية مع احتفاظ كل وحدة من الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي ببعض الاستقلال الداخلي، بينما تفقد كل منها مقومات سيادتها الخارجية التي تنفرد بها الحكومة الاتحادية، كعقد الاتفاقيات والمعاهدات أو التمثيل السياسي، ويكون على رأس هذا الاتحاد، رئيس واحد للدولة هو الذي يمثلها في المحيط الدولي(2).
والفيدرالية كمفهوم حقوقي ونظام سياسي، هو في الواقع، توفيق أو توليف بين ما هو متناقض في بعض المفاهيم، وفي عناصر بنية النظام، أي بين الاستقلالية والاندماج، وبين المركزية واللامركزية، وبين التكامل والتجزئة، وفي بعض الأنظمة الفيدرالية بين القومي وشبه القومي(3)، إذ يتخذ النظام الفيدرالي أشكالاً مختلفة وفقاً لتراكيب السكان والكيانات المتحدة – القومية، العرقية، التاريخية، اللغوية، أو الدينية … إلخ، هذا إلى جانب تكوينات اتحادية سابقة لأمم وشعوب وأقوام وأديان مختلفة، كما في الاتحاد السوفيتي (السابق) ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا.
كما تعني الفيدرالية نمطا أو شكلا من أشكال الأنظمة السياسية المعاصرة، وتعني وحدة مجموعة أقاليم أو ولايات أو جمهوريات (دويلات) في إطار الارتباط بنظام المركزية الاتحادية، مع التمتع بنوع خاص من الاستقلالية الذاتية لكل إقليم، فالنظام الفيدرالي يضمن للقوميات حق إدارة أمورها بنفسها، مع بقائها ضمن دولة واحدة. والأقاليم أو الولايات المكونة للدولة الاتحادية تعد وحدات دستورية، لا وحدات إدارية كالمحافظات في الدولة الموحدة، ويكون لكل وحدة دستورية نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولكن الدستور الاتحادي يفرض وجوده مباشرة على جميع رعايا هذه الولايات، بغير حاجة إلى موافقة سلطاتها المحلية.
الفيدرالية أو الاتحاد الفيدرالي، ليست فقط بنية سياسية، بل اقتصادية واجتماعية وثقافية أيضاً، تتطلب تعاوناً وثيقاً بين سائر المؤسسات والجماعات والأفراد في الكيان الاتحادي، بما يضمن تعزيز وتطوير الاتحاد من جهة، واعتماد قوانين وآليات تؤمن الحفاظ على هوية وحقوق الأطراف المكونة للاتحاد.
ويذهب اخرون الى ان الفيدرالية هي (استقلال داخلي ضمن الدولة الواحدة والسلطة المركزية الفيدرالية وعلى أساس المساواة) (4).
لقد قام العديد من الأنظمة الفدرالية عبر العالم لكن كانت أعدادها قليلة فمثلاً كولومبيا، تحولت من النظام الفدرالي إلى النظام المركزي في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ذلك، عادت إلى النظام الفدرالي في نهاية القرن العشرين. وكان قيام الإتحاد السوفيتي عام 1922 قد مثل واحدة من التجارب المهمة في هذا المضمار رغم فشلها في ما بعد ولكن هذه التجربة لم تدرس في حينها بعمق على اعتبار أنها لا تمثل التجربة الأهم في هذا البلد إضافة إلى ذلك كان المعسكر الغربي مشغولا في التصدي للنظام الاشتراكي كفكر وممارسة لإبراز وتضخيم عيوبه ولإثبات عدم صلاحيته.
كان الإتحاد السوفيتي يستطيع أن ينجو من خسارة بعض الجمهوريات الصغيرة مثل جمهوريات البلطيق والقفقاس ومولدافيا، لكن غياب التعامل الحاذق معها سوية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، شجع جمهوريات أخرى أكبر مثل أوكرانيا على الابتعاد عن المركز، ولا ريب أن غورباتشوف تأخر كثيراً في صياغة علاقة دستورية جديدة بين الجمهوريات، وحين كان مستعداً لتقديم تنازلات، كان الوضع قد تجاوزها فبدت تلك التنازلات متأخرة ومرفوضة. كذلك كان إعلان الإتحاد الروسي نفسه أيضاً جمهورية ذات سيادة عاملاً حاسماً في انهيار الإتحاد، فعندما أعلن إقليم بهذه المساحة سيادته لم تكن هناك جدوى من بقاء الأقاليم الأخرى في الإتحاد، فسارت أوكرنيا وبيلوروسيا وآسيا السوفيتية في أعقابه على الرغم من أن ذلك كان ضد مصالحها بالكامل.
وتزايدت الأنظمة الفدرالية بعد الحرب العالمية الثانية وأهم نظام فدرالي ظهر بعد هذه الفترة هو ألمانيا الاتحادية حيث كانت هناك رغبة قوية من قبل الحلفاء في أن لا تبقى ألمانيا دولة مركزية موحدة خشية ظهورها من جديد كقوة تهدد السلم.
في السنوات، التي تلت نهاية الحرب الباردة، فإن زيادة حدوث وقسوة النزاعات الداخلية المسلحة، والحروب الأهلية، عمقت المصلحة في الفدرالية، كإستراتيجية مؤسساتية لتسوية الخلافات الإقليمية والاثنية. وعندما يتفوق النزاع الداخلي على النزاع بين الدول، كمصدر أكثر شيوعا للعنف السياسي، في عالم اليوم تصبح الفدرالية خياراً مهماً بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن هندسة المؤسسات التي تستطيع توفير الأمن في بيئات ما بعد النزاع.
ان النظام الفدرالي يرتكز على ادراك حقيقةالخصائص المتعلقة بالأجزاء المكونة له ورعايتها والاعتراف بالحقوق الديمقراطيةلمكوناته وتوفير مستلزمات ممارسة هذه الحقوق، لا في ظرف تاريخي محدد فقط وانماتطوير إمكانية هذه الممارسة تبعاً لتطور الواقع. إنه وسيلة لاطلاق العنان للطاقاتوالامكانيات المتوفرة في كل جزء من أجزاء النظام العام بهدف تطوير الشعبوتقدمه.
واذا كان النظام الفدرالي قد وجد لحل مشكلة هذا الجزء او ذاك، كأن يكونالجزء قومية ما، فعملية الحل تخص الجزء ومصلحته كما تخص الشعب كله ومن مصلحتهأيضاً.
ان قوة ونمو ورفاهية شعب أي بلد هي من قوة ونمو ورفاهية كل جزء من أجزائهوالعكس صحيح أيضاً.
فليس من مصلحة الكل ولا من مصلحة الجزء تجزئة البلاد، ولذافان انفصال أي شعب او قومية (الجزء)، رغم ما له من حق في تقرير المصير بما فيهالانفصال، هو ليس من مصلحته اذا ما روعيت حقاً مستلزمات إقامة النظام الفدراليوديمومته، وانما يلحق به الضرر أكثر مما يلحق الضرر بالكل. فبسبب من محدودية رقعةأرض هذا الشعب لوحده (الجزء)، ومحدودية عدد سكانه وموارده الطبيعية وطاقاته البشريةوإمكانياته المالية نسبيا،ً فهو اضعف قدرة من قدرة النظام ككل على درء مخاطر أيعدوان خارجي محتمل وتجاوزاته، واقل قدرة، ان لم نقل عاجزاً، في اكثر الأحيان عنإقامة المشاريع الاقتصادية الضخمة ذات التأثير المحوري الفعال على كامل التطورالاقتصادي وتسريعه في البلاد، وبالتالي على وضعه ودوره السياسي والاجتماعي في مختلفمجالات الحياة.
وعندما توضع العراقيل امام تطور أي جزء ومساره، بحجب حقوقهالديمقراطية وممارستها، او من جراء التمايز والاضطهاد، تبدأ النزاعاتوتستفحل، وبالتالي يتعثر ويتعرقل مسار سائر الأجزاء وتطورها، ما يلحق الضرر بالشعببأسره.
ومن هنا، بقدر ما يجري الاخلال بالديمقراطية تنشأ النزاعات وتحتدمالصراعات ويجري افراغ النظام الفدرالي من محتواه الحقيقي، ويصبح جسراً للتجزئةوالانفصال. وبقدر ما يجري احترام الحقوق الديمقراطية تتعزز روح الاخاء والتعاون بينمكونات النظام وأجزائه ويعم التآلف والمحبة ويتطور الكل ويتم اشباع النظام الفدراليبمحتواه، فيصبح طريقاً لمزيد من التلاحم والاستقرار والنمو. فهو نظام يرتكز علىالاتحاد الاختياري الحرّ الواعي، بعيداً عن القسر والاستبداد.