في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الروائي غائب طعمة فرمان كاظم حسوني

لعل الظلم الذي لحق بغائب طعمة فرمان، لم يقع على اديب آخر مثله رغم ضروب الاذى والمحن التي تعرض لها المثقف العراقي لأزمان طويلة من لدن حكومات متخلفة تضطهد ادباءها ومبدعيها لكن، غائب يبقى المثال الاكثر تراجيدياً من بين المغتربين العراقيين،
اذ امضى اكثر من اربعين عاماً مبعداُ عن وطنه في المنفى ومات في صقيعه، وكان يحلم بالعودة الى الوطن، لكن حياته اضحت سفراً بلا نهاية، وما يزيد من مأساة غائب كونه (محاصراً حتى في منفاه، فلم يكف حكومات الاستبداد في العراق انها اسقطت عنه الجنسية وهو في منفاه، وقطعت عنه راتب التقاعد (مئة دينار) بل عمدت الى منعه من التحرك والسفر كما يريد ومتى يشاء، وليس فقط الى وطنه انما حتى في التنقل بين بلد عربي وآخر، وظل جواز السفر نقمة عليه ويثير دائماً قلقه ومخاوفه، خشية انتهاء صلاحية مدته، او هل ستمدده السفارة ام لا وهل يغامر بالذهاب الى السفارة؟ وفي احسن الاحوال كان حل مشكلة الجواز وقتياً) وازاء ذلك كان على الدوام محكوماً بالانتظار وهو في المنفى، فالوطن ممنوع، والبلدان العربية ممنوعة، وبهذا الشأن كتب في احدى رسائله الى عبد الرحمن منيف يصف حالته (حلت مسألة الجواز، فقد جدد لمدة سنة، وسأكون مطمئناً من هذه الناحية خلال هذه السنة، والجواز مجرد وثيقة تثبت باني عراقي، وما ازال على قيد الحياة).

قال صديقه الكاتب سعيد حورانية: لم يحمل مغترب وطنه كهم يومي، وحنين دائم، كما حمل غائب وطنه العراق، وانه لمن المدهش ان يكتب غائب جميع رواياته بدءاً من (النخلة والجيران) وانتهاءً برواتيه (المركب) باستثناء (المرتجى والمؤجل) عن مدينته بغداد، كأنه لا يزال يعيش بشوارعها وازقتها ومحلاتها القديمة، ويتنفس هواءها، وهو في منفاه الروسي البعيد منذ عقود، ومن يقرأ رواياته لم يتصور او يصدق ان غائب، قد غادر محلته الشعبية وعاش بعيداً عن وطنه..اذ دأب في مجمل كتاباته استحضار بغداد متوغلاً في ازقتها ومناطقها الشعبية، بوجوه شخصياتها من العمال والكسبة والباعة معبراً عن همومهم واحلامهم الصغيرة وبؤسهم اصدق تعبير، موليا اياهم كل عنايته وابداعه وظل الى النهاية وفياً مخلصاً لاناسه المتعبين والمظلومين والكادحين يعكس في ادبه ورواياته قصصهم واحزانهم وحيواتهم البسيطة المرحة الحزينة ناسجاً ملامحهم الشعبية وحكاياتهم بالنكهة المحلية لمحلات بغداد في الاربعينيات والخمسينيات مثل (محلة المربعة) و(سلطان علي) وسواها من المناطق من منا لا يتذكر سليمة الخبازة، او عليوي سائق العربة، وحسين مصلح الدراجات، او مظلومة، ونوري، والسيد معروف، وشخصيات اخرى مازالت تعيش في ذاكرتنا بملامحها وعذاباتها هذه الشخصيات وغيرها التي كانت تمثل له الوطن وبغداد التي عاش بها ومن اجلها ووهب نفسه كلياً لها، ولطالما ظل يحلم وهو في منفاه بالعودة اليها ليتكلم باللهجة العراقية، وان يأكل في مطاعمها الشعبية وان يتجول في شوارعها ومحلاتها، ويرى محلته القديمة المربعة وما تبقى منها، كما جاء في بعض رسائله غائب مثل ابطال رواياته ظل يأمل ان تتغير الاوضاع سنة بعد سنة متحملاً المزيد من الاحتراق والغربة والشقاء لكنه دائماً كان يجد عزاءه في قلمه، وفي مقابلة معه عبر عن ذلك (انا في الغربة يعجبني ان اكتب عن بغداد، واجواء بغداد، ربما يكون ذلك سلاحاً ضد الذوبان والضياع، نوعاً من الدفاع عن النفس والمغامرة والاتصال الروحي بالوطن). الوطن الذي كلما اوغل في البعد عنه ازداد تعلقاً به وتأتي كتاباته في الغربة تواصلاً ملهوفاً له، متكئاً على ذاكرة حية تنبض بقوة تفيض بالحنين لبغداد التي غادرها مرغماً (الى ارض غريبة لكي لا يبيع الكلمة لسلطان وحشي احمق)، لذا يغدو الوجه الآخر لابداعاته بوصفها استمراراً وتعويضاً عن خسارات الغربة وشقائها، الم الحنين لمدينته للنقاء الشعبي والعفوية، والبساطة، والقيم الطيبة التي مجدها في مسار كتاباته، للباعة المتجولين، والبسطاء والمضطهدين ممن يعيشون حياة قاسية لكنهم يرونها جميلة ويحلمون بتحسنها، غائب مجد حتى الاشياء التافهة والتفاصيل الصغيرة في رواياته الى الحد الذي تمتعه رؤية (عربات النفط ما زالت تسير هناك.. توزع النفط على البيوت، وما زال باعة السمك الميت والعربات المحملة بالخس وعربات البرتقال المغلف بطبقة رقيقة من الغبار، والسيارات منطلقة على الشارع الاسفلتي تثير الغبار والصبية يتراكضون على الارصفة الترابية، ويثيرون الغبار ايضاً، والخضرة مغبرة متهافتة كسول) كما جاء على لسان احد ابطال روايته (ظلال على النافذة).
الصور الندية لبغداد
رغم ان جميع روايات غائب طعمة فرمان كتبت جميعها خارج العراق، لكن من الصعب ان نجد روائياً عراقياً كتب عن الحياة العراقية مثلما كتب غائب هذا ماقاله الكاتب جلال الماشطة، وكانت محلته المربعة بالنسبة له تكثيفاً ورمزاً لبغداد التي ظلت تمثل له وهو في غربته معيناً روحياً وجمالياً يمده بالصور والاحداث والذكريات، وهاجساً دائماً يحمله في قلبه، ويحيا به عقله، خياله يطوف ببغداد القاع يهبط في ازقتها القديمة، وبيوتاتها المتزاحمة، ومحلاتها، ومقاهيها، يتجول في شوارعها، يتجاذب الحديث مع اناسها الفقراء ابطال رواياته ليصف لنا معاناتهم وانماط حياتهم، وقد وصفه عبدالرحمن منيف قائلاً: (هذا البغدادي الذي يحمل بغداده معه اينما ذهب ولا يتعب من النظر اليها كما ينظر الطفل الى لعبته هو بحاجة الى رائحة بغداد وشمسها) لقد كانت تمثل له نوعاً من الانتظار اي انتظار عودته اليها اذ لم يكف عن تتبع اخبارها عبر كل الوسائل المتاحة لديه، كأنه يتلمس في ذلك نوعاً من الخلاص، ومن استلاب وحشة المنفى، ومواجهة احلامه فرغم مجرى الزمن الطويل الذي ترك بصماته على كل شيء لكن بغداد ظلت مخزونة في ذاكرته طرية حية كالفتاة (وكلما اوغل في البعد عن وطنه استحضره في ادبه بقوة لا تضاهى وهو لا يستطيع منها فراراً فقد صارت جزءاً من ضميره، وذاكرته ولا مهرب منها ولا منجى وعزاؤه هو ان من لا ذكريات له لا ذاكرة له) وهنا نرى ان تراجيديا فرمان تتمثل في فاجعة مفارقته للمكان، بعد ان عبر بقوة في كل رواياته وقصصه عن ارتباطه الوجداني به وتشبثه العنيد ببيئته ومحلته الشعبية التي ولد وعاش فيها للحفاظ عليها من تيار الزمن وسرود الانقراض والضياع، اذ تجلت براعته الروائية في الخلق والصنعة الادبية، ليعيد الينا بغداد في اطوارها المختلفة، في صورها الندية منذ الاربعينيات حتى السبعينيات، قبل ان تعتصرها احزان الحروب والدمار والقتل..

Facebook
Twitter