حولت العملية السياسية العراق الى ملعب يلعب به الآخرون ويقتعد شعبه على مصاطب الفرجة
النظام البرلماني نظام احتيال مكشوف وبائس على الحق الطبيعي للشعب في حكم نفسه مباشرة
الديمقراطيات البرلمانية التي لم تنجح الا في خلق طبقات نفعية قمعية انتهازية مرتهنة لارادات غيرية شريرة
عبد الرضا الحميد
لقد قاطعت اغلب القوى القومية العربية والناصرية والجماهيرية وبعض القوى الاسلامية في العراق لعبة الانتخابات الزائفة في كل مراحلها رغم ظروف شائكة ومعقدة تداخل فيها التهديد والوعيد بالترغيب والاغراء، ولم يتأت هذا الموقف الشجاع من فراغ ، انما تأسس على عدة ثوابت قد تختلف من فصيل الى اخر لكنها تلتقي عند القاسم المشترك الكبير وهو ان الاحتلال وكل آثاره، بما فيها الدستور، والمؤسسات القائمة على اساسه، باطل ، وكل مابني على باطل باطل ايضا.
لكن موقف الفصيل القومي العربي الجماهيري في العراق يكاد يكون الاجلى في بيانه ، لتأسسه على قاعدتين: اولاهما وطنية ، وثانيتهما عقائدية.
فأما الوطنية فقد نبعت من موقف هذا الفصيل المقاوم للاحتلال وجميع آثاره ، ولعل العملية السياسية الجارية الآن في البلاد بأسسها البريمرية واهدافها الاحتلالية الصهيونية الصليبية الجديدة ، بتمظهراتها البينة ، وخفاياها الراكسة ، اول هذه الآثار ، التي دفع الشعب العراقي وما زال يدفع جراء مدوناتها المحاصصاتية ، العرقية الشوفينية ، والطائفية المقيتة ، والفئوية البغيضة ، والحزبية الضيقة ، انهاراً من دماء بنيه الابرياء ، واهرامات من اموال ثرواته ، وملايين من الارامل واليتامى والمعاقين والعاطلين .
لقد بنيت هذه العملية ، بتدبير احتلالي بعيد الاهداف ، على اساس تدمير النسيج الواحد الموحد للشعب العراقي وتفتيت لحمته ، وتحويله الى جماعات تتنابز بالكذبات التاريخية وتتقاتل على الاوهام ، وتتحول مع التقادم ، الى شراذم ذيلية تابعة للافلاك الاقليمية ، ودائرة في مداراتها ، ومنفذة لمشيئاتها .
وقد اسهم مجلس الحكم سيء الذكر مع المجرم بول بريمر بوضع اسس اعادة انتاج الشعب العراقي، انتاجاً يتساوق مع الاهداف المنظورة وغير المنظورة للاحتلال ، فكان هذا المجلس ، ومعظمه من الناس الذين غادروا الوطن وارتموا بأحضان المخابرات الدولية ، عراب تنفيذ العملية السياسية ، التي افضت في ما افضت اليه ، الى استجلاب النموذج الغربي الرأسمالي المتوحش لما يسمى بـ (الديمقراطية البرلمانية) وفرضها قسراً ، وبقوة ماكينة الحرب الاحتلالية ،على الشعب ، واوهم الاغلب الاعم من ذوي النيات الحسنة والتعليم البسيط والاميين والسذج ، بأنها خيار الشعب للخلاص من منظومات الاستبداد الحكومي واحتكار السلطات ، وقد اندفع ، وللاسف ، كثير من المؤسسات الاعلامية ، الى الترويج لهذه الاكذوبة الرخيصة ، والتطبيل لها ، وتسويقها كما لو انها (المنقذ التاريخي ) من ضلال الحكومات .
لقد لمس الشعب العراقي ، ان الحكومات التي قامت في ظل (الديمقراطية البريمرية) ، لم تكن خياراً شعبياً محضاً قدر ما هي خيار احتلالي محض ، وقد برعت ايما براعة في فنون التدليس والكذب والفساد السياسي والمالي والاداري حتى تحول العراق بفضلها الى خانة الدول الاكثر فساداً في العالم .
ولم يتأت ذلك من فراغ ايضا ، ولا وليد صدفة محضة ، انما من تخطيط غاية في الدقة ، انجز في دهاليز الاحتلال الخفية ، لتلويث ذائقة الشعب القيمية وتخريب منظومته الاخلاقية ، واعدام الانا الجمعية عنده ، وهي خصيصة من ابرز خصيصاته التاريخية ، وتضخيم الانا النفعية الانتهازية ، وقد كاد واضعو هذا المخطط القذر ان يبلغوا شأوهم لولا يقظة النخبة الوطنية الشريفة الواعية من القوى المناهضة للاحتلال ، وتعريتها هذا المخطط ، بتضحياتها الجسام ، ومواقفها المسؤولة الشجاعة ، في كشف حقيقة ان الطبقات السياسية التي استجلبها الاحتلال لتمرير مخططاته ، ليست اكثر من ادوات فساد وافساد لا تصلح نموذجاً لقياس المواطنة ، ولا معياراً للاخلاص والنزاهة ، خاصة بعد ان رأى الشعب رؤية عين تقاتل هذه الطبقات على منافعها ومصالحها دونما حياء او خجل ، ونهبها لثروات البلاد والعباد نهاراً جهاراً ، وتحويل القانون الى مقصلة لجز اعناق الشرفاء ، من ناحية ، وجسراً للفساد والمفسدين من ناحية اخرى .
لقد حولت العملية السياسية العراق الى ملعب يلعب به الآخرون ويقتعد شعبه على مصاطب الفرجة ، ولان الفصيل الجماهيري العراقي يرفض ان يلعب في ملاعب الاخرين ، يرفض ايضاً وبشدة الا يكون الشعب العراقي هو اللاعب الاوحد في ملعبه ، ولا احد سواه ، كما يرفض وبالشدة ذاتها ان يتحول بعض العراقيين الى لاعبين بالنيابة عن الآخر الطامع ، وكفانا امثلة من البرلمان السابق الذي تحول الى فرق تلعب بالنيابة عن الآخرين ، وما من احد فيه يلعب بالنيابة عن الشعب ابداً ، حتى ذاق الشعب الامرين من جوع وفاقة وتشرد وحاضر مخيف ومستقبل مجهول.
من ما مر ، نجد ، ان رفض الفصيل الجماهيري للعبة الانتخابات هو رفض لجزيئة ملوثة خطيرة من جزيئات مؤامرة كبرى اخطر على الشعب وحاضره ومستقبله ، وعلى امتينا العربية والاسلامية وحاضرهما ومستقبلهما ايضاً.
اما القاعدة العقائدية التي تأسس عليها رفض هذا الفصيل للعبة الانتخابات فقد كانت نابعة من ايمانه المطلق بسلطة الشعب التي يمارسها مباشرة ، وعبر اقنية مؤتمراته الشعبية الاساسية ، وبالديمقراطية المباشرة التي تحفظ لكل مواطن حقه في ممارسة السيادة ضمن شعبه على تحديد خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية دونما نيابة او تمثيل زائفين، ودونما تغييب للشعب ومصادرة لسلطته، فالنظام البرلماني نظام حكم غيابي عن الشعب، تنعدم فيه الارادة الشعبية، وتتصدر الارادة الحزبية والفئوية والطائفية والعرقية والرأسمالية، انه نظام احتيال مكشوف وبائس على الحق الطبيعي للشعب في حكم نفسه مباشرة، وهو مخالفة صريحة وفاضحة لكل الشرائع السماوية والوضعية العادلة، فالشعب وحده هو منتج السلطة وصاحبها وممارسها ومامن احد ينوب عن الشعب بأي توصيف طبيعي او ناموسي او عدالي بالمرة.
ان الديمقرطية التي يناضل الفصيل الجماهيري العراقي من اجل تحقيقها، ودفع من دماء مناضليه الطاهرة الكثير، هي الديمقراطية المباشرة التي يحتفظ بها المواطن بحقه ورأيه لانهما ملكان محضان له لاتجوز معهما الانابة ولا التمثيل، وهي الديمقراطية التي تكفل العدالة والمساواة بين الجميع ، فلا وزير ولا خفير ، ولامالك ولا اجير ، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا سادة ولا عبيد ، فالجميع متساوون في حقوقهم وواجباتهم، وهي ديمقراطية الهواء الطلق لا الابراج العاجية والقصور المنيفة والكواليس الخفية، انها المشاركة الجمعية الحقيقية لجميع المواطنين في المسؤولية تجاه الوطن وحاضره ومستقبله، لا مسؤولية النخب الحزبية والفئوية، ولا مسؤولية النواب والممثلين ، فالنيابة والتمثيل صيغتان من صيغ الدجل الهادف الى مصادرة الحق الطبيعي للشعب في السيادة المباشرة على وطنه وفي حكم نفسه، ولقد اهترأت الانظمة البرلمانية في العالم بعد ان تكشفت حقائقها الرأسمالية المتوحشة وجواهرها الاستبدادية المقنعة التي تستهدف ابادة الارادة الشعبية ابادة مبرمجة لصالح الارادات الرأسمالية التي تبغي تحويل الشعوب الى قطعان من العبيد والاجراء لديها.
وقد وعت الكثير من الشعوب ان خلاصها بل وخلاص الانسانية الامثل من ربقة احتكار السلطات وانظمة القمع بصفاتها الفردية او الحزبية او الفئوية ، يكمن في الفكر الجماهيري الخلاق، فكر العدالة والمساواة وهي الان تحث خطاها في اكثر من صقع من اصقاع الارض لتأسيس تجاربها الجماهيرية ، راكلة انظمة البؤس الليبرالية البرلمانية الظالمة. وفي العراق الصابر ، تلمس العراقيون عبر اكثر من ثمانين سنة عقم الديمقراطيات البرلمانية التي لم تنجح الا في خلق طبقات نفعية قمعية انتهازية مرتهنة لارادات غيرية شريرة مثلت اغطية ثقيلة كابحة لارادة التحرر الشعبية الواسعة، وآخر هذه النماذج ما مر ومازال يمر خلال السنوات السبع العجاف تحت نير الاحتلال.
ولتلمس هذه الاكذوبة الخطيرة ، نقول ، ان اصحاب دعوات (الديمقراطية البرلمانية) يجاهرون بأن الفائزين في لعبها الانتخابية يمثلون الشعب ، ولهم حق الحكم بأسمه ، ولهؤلاء نترك الارقام المستلة من نتائج الانتخابات تتحدث لتكشف زيف هذه الطروحات المجة التي يرفضها العقل السليم .
لقد كشفت النتائج ان قائمة اياد علاوي كسبت حوالي مليونين وسبع مئة الف صوت من مجموع اصوات الناخبين البالغة (19)مليون وثماني مئة الف ناخب (اجمالي عدد العراقيين الذين يحق لهم التصويت) ولو طرحنا الاصوات المؤيدة لعلاوي من مجموع عدد الناخبين نجد ان حوالي (17) مليون مواطن يرفضون علاوي وقائمته ، فهل يصح ان يحكم علاوي بأسم الشعب والنسبة الاغلب من الشعب ترفضه.
وكشفت النتائج ان قائمة نوري المالكي كسبت قرابة مليونين ونصف المليون صوت من مجموع اصوات الناخبين المار ذكرها ، ولو طرحنا الاصوات التي حازها نوري المالكي من مجموع الناخبين نجد ان عدد العراقيين الذين يرفضون المالكي يبلغ اكثر من 17 مليوناً ايضاً فهل يعقل ان يحكم المالكي شعب العراق والنسبة الاغلب ترفضه؟
ولو عدنا الى الارقام الشخصية التي حازها المرشحون لرئاسة الوزارة نجد ما يلي:
– حاز نوري المالكي (ست مئة واثنين وعشرين الف صوت) من اصوات ناخبي بغداد ورفضه (مليون وتسع مئة وثمانية عشر الفا) منهم
– حاز اياد علاوي (اربع مئة وسبعة الاف صوت) من اصوات ناخبي بغداد ورفضه مليونان ومئة الف منهم
– حاز باقر الزبيدي (ثمانية وستين الف صوت) من اصوات ناخبي بغداد ورفضه (مليونان واربع مئة واثنان وسبعون الفا) منهم.
– حاز ابراهيم الجعفري (مئة الف صوت) من اصوات ناخبي بغداد ورفضه (مليونان واربع مئة الف) منهم.
والقائمة تطول ، وفجائع الارقام تستفز اي عقل راجح وعادل.
افهل يعقل اي عاقل هكذا نمط للنصب والاحتيال على الشعب ومصادرة حقه في السيادة على وطنه وحكم نفسه بنفسه مباشرة؟
وهل يعقل اكثر ان مرشحة تصبح بقدرة قادر ممثلة لاهالي بغداد مع ان انها لم تحصل الا على 600 صوت فقط من اصوات البغداديين البالغة مليونين ونصف المليون مواطن؟.
ان فراسة الشعب العراقي التي وأدت الطائفية بأخطر تمظهراتها رغم الماكنة الاعلامية والمالية الهائلة التي سخرت لتسويقها ، قادر ايضاً على وأد الاكذوبة الكبرى المسماة (الديمقراطية البرلمانية) ورد سهام جالبيها وفارضيها قسراً الى نحورهم . وان موعد الشعب العراقي مع سلطته لآت حتماً وان طال السفر ، وعظمت التضحيات.