كل الذين كانوا يحاذون خطوتي تآكلوا في الصمت او هادنوا السماء والأسماء, فمضيت بلا احتياطي من رفقة, ابعثر التاريخ على الحدود القصوى للنسيان وأتماهى مع المشردين مترّحلّة في دخان الأمم, دونما خرائط توجز لي طريق الجلجلة…
الأبجديات كانت تتلاشى في الخديعة و الجحود, وريبة الإنسان بالإنسان والصديق بالصديق تلاحق الليل وتطمس الحقائق وأصداء الأنين في المدينة المحتلة, فأغادرها الى مدن تحتلني, هربي لم يكن نجاة محتملة بل إيغالا في ضياع القصد, فالمدن أكاّلة قلوب البشر, والجهات مائلة الى الغدر والوقت يتشهى إلتهامنا ونحن محض كائنات شفافة متصدعة, يعاد ترميمها على عجل بماء نار اللجوء.
1
في بيت الشاي الأنيق عند إنحرافات النهار وإشتباه النفس بنفسها, أخالك تجالس أسئلتي
وتمسد مخاوفي بالأمل و ترسل لي من مدينتك الحمراء ملاك الرغبة وذاكرة الدراويش تقاسمني الخروج على كل سراط ويقين, فكل سراط فخ للإيقاع بالعقل, وكل يقين مكيدة للإطاحة بالاجنحة..
كلانا يعلم ان الكتّابَ عرّابو المحن, كهنة الحلم و قضاة الفقد, سارقو التفاصيل من الالهة العاطلة, ممولو الغوايات الذين تضيق بهم الخرائط وتنفيهم الأعاصير الى مزحة الجنون, تتبعهم ظلال الوهم وتقتات على دمهم فراشات الشهوة..
كلما كتبوا مراثي الجسد واندحار الفكرة, ودونوا أهاجيهم عن التحريم, وكلما رتلوا ترنيمات الثمل للروح المخذولة – تصاعدت موتيفات النار والحب في أصابعهم, وتعالت فونيمات الترويع في مفردات القصاص المتربص بهم..
مطلا من صورته الداكنة على جدار بيت الشاي يفيق جان كوكتو المارق من رفاه الموت,
يهمس لنا: لاتكابدوا كل هذا العناء, أيها الناسخون, فالسماء لنا جميعا!!
لكن السماء ليست لأحد ياجان كوكتو – والكلمات ليست لنا وحدنا نحن مخترعو الحكايات المتبلة بتباريح الالم والرغبات ورعاة الخسارة نسوق قطعانها في وديان قنوطنا, نحن ضحايانا قبل ان نفوز بضحايا طازجة لمخيلاتنا, مبدعون في ترسيم الخراب, ومؤدلجون بكل تقليد هالك ساعة يغوص النصل في الخاصرة..
نرى الملاك ينضو ثلوجه ويأتلق بنار المعصية, نجاة من بلادة سماواته, فلا نحتفي ببسالة العصيان, بل نتخذ قناع الضد المتربص, لنعيق خلاص الملاك من القداسة الهالكة..
2
بيت الشاي في ممر دوفين – الحي اللاتيني, أممي على الطريقة الباريسية, تديره إيطالية وتضّيفّ الزبائن فيه نادلة مغربية وبوسعك ان تحتسي فيه ما شئت من انبذة واشربة وقهوة وشاي اخضر وشاي ياسمين وتفاح وتوت وشاي جيورجي محروق بنكهة لهب وشاي سيلاني وشاي من اختراع اللحظة العابرة, وملصق يتسيد المكان للشاعر المارق جان كوكتو..
نبيذ بوجوليه مثل الذي ادعوك اليه – أضعه امام طيفك القاصي, تدعوني الى منتصف ليلك, شايك مسكر, وشرابي للإفاقة من شرق مأهول بالموت وأقاليم العبودية الناجزة, كلماتك نبيذ معتق في كهف حريتي, يقتص من صحوي ويمضي بالأخيلة الى اقاصي الافتتان..
تداهمني موسيقى جوقة ضاجة في الحي اللاتيني: أسمعهم يهجون مهنتنا, يهجون الكتب والكتّاب والكتابة, رجل بزي امرأة يهذي على افق من زهور جيرانيوم وأشجار كستناء, يهجو الكلمات واللغات والشعر والنصوص ويعلي من مقام الجسد في رقصة الموت التي تسحبه الى ممرات النار, يسمينا فاشست اللغة, فاشيست اللحظة الآبقة, فاشيو العصر مابعد الحداثي..
يشهق جنونا ويتسامق رغبة في هواء الميدان الدخاني مسورا بدفقات من عطور وعرق, وبخار كحول ينضح من جلده الذهبي, من عروقه النافرة, من نظرته الزئبق, من فمه القابض على جمرة الشهوة.
هجاؤه يحيل الكتب الى عدم, يحيل الكتاّب الى مشعوذين, يحيل الكلمات الى هباء زائد, هجاء الرجل الراقص: أنوثة مستعارة في إهاب ذكورة مخاتلة, يطعن النص, ويلاحق اللغة بهبوب لهب من شعره الاحمر الجعد ونصه الكاسر وعضلاته المتوفزة..
أخالني أتلبس الهجاء بسحر رقصته, أخال الناس يتقمصون كوميدياه الدخانية, فاتمتم في المسافة المعراة بيني وبين الإعتراف:
ياللكاتبة من عابدة للجمال الفاني, يالي من كائن مرصود للشغف, ياللكلمات من طعنات تليق بالمارقين, يالي من راعية لجنون العبارة وجنوح القلب, أفاشية أنا؟ وأنتم؟؟
لعلنا حقا كما يدعي الراقص المهرج في نشوته, فاشيست اللغات والكلمات والآخيلة..
عباراتي تترامى في أبهة الريح وتحط في نظرتك, جحيمات من اللغة تتوهج في حريق المساء وانت في بار صغير تحدق بامراة عابرة تهبها قسماتي, جحيمات من النشوات تأتي على الحكايا الحادثة اما منا على ضفاف السين او في شارع اميل زولا او ساحة فولتير اوشارع سان شارلس حيث المقبرة العتيقة امام نافذتي تتصادى فيها الموسيقى او تزدهي الزنابق حول الشواهد والصلبان الوادعة, ظلال اشجارها المتقدة بأزاهيرها تحنو على وحشة الموتى في النهار, وتتواطأ معهم في انتظار قيامة ترتاب بها..
وجهك في المنأى, في المغارب في المتاهات, يخط ملامح ليلي وتباريح نهاراتي, يحّور مذاق الشاي ونكهته المدارّية, فيستحيل شرابا به بعض فتنة الخرافة وبعض سحر الترياق الشافي,
احتسيه ترياقا لسموم تتراكض في ازمنتي, امامي في المقهى إمراة وحيدة بثوب قطني باهت الزرقة تحاور وهما او تحادث بقايا عاشق آبق, اراها في مأزق وجودها: وجودا عابرا للحظة زائلة, اسمعها تحاور شخصا بنبرة قنوط, تهذي عبر هاتفها النقال, وتبدد قصتها على قرميد الشارع وزهرة الاوركيد وفضولنا, مائدة الشاي مستغرقة بلذائذ كعك التفاح وصلصة التوت البري,والمرأة كما اراها – تستعيد نصا, أو تستظهر دورا موكلا لها, ربما هو نص المونودراما الشهير (الصوت البشري) لجان كوكتو, ذلك النص الذي استنفدت فيه (انغريد بريغمان) تاريخها في سرد الالم, وسمعناها في اسطوانة خالدة, وتبنينا فجيعة الوحشة والهجران والموت مع مرارة صوتها المنتحر, وهي تنهي عبارتها الاخيرة: اذا قطعت اتصالك معي فانني ساختنق لأن حبل التلفون ملتف على عنقي وستقطع عني الهواء وتوقف الحياة..
الموت صنو الحب الموازي, وجهه التالي, جوهره المخلد في فناء الجسد, الموت قناعه البهيّ
ليبقينا على أهبة الجنون في المهاجر- اقرأ ذلك في شحوبها السلافي, ورجفة فمها المخذول, اقرأها وامضي هربا اليك من شغف المدينة بالموت وشهوة الكائنات للفناء..
المراة النحيلة مثل عصفور, شبيهة (اديث بياف) حبيبة الشاعر جان كوكتو, تنهي حوارها اليائس على رشفة قهوة, وتتيه في الذهول الفاتن لخسارتها وتضحك تضحك حتى يغمى على
ثوبها الازرق وشعرها الجعد وعينيها الغائمتين, يغمى على شايها الاخضر وظلال الغياب تموج في وجهها الشمعي..
مثلها, مثل إ نغريد برغمان, مثل إديث بياف, مثل إمراة بارحت الحب الى الموت,
تنهمر الخسار ات على المسافات القلقة مابين الإفاقة والغياب, لاأحد يحتفظ باحتياطي قيامة
تعفيه من مصير الرماد سواي فأنت قيامتي..
طلبت لك شايك المنعنع من السيدة الانيقة ذات الوشاح المدعوك بالبنفسج, وصوتك يشتبك بروحي ويسمها ببروق الشغف, بالفن الشهي المطلق, بمفردا تك التي تستولدها لي, وكل منا في لعنة على مقاس مروقنا, كل منا في التباسٍ ماحولنا ووضوح مابين لحظتنا والمسافة..
قهوة السيدة التي تزقزق بايطالية نابولي- تمزج ألق شجر الكستناء برغوة الموسيقى حيث
يحتفل خريجو كلية الهندسة في الحي اللاتيني وسط الشارع المرصوف بالآجر وترقص معهم
ستائر الحانات الصغيرة ومزهريات الاوركيد في الشرفات والمهرج المتأنث المرتدي زي راقصةآسيوية وبعض البنات السوداوات المصقولات بزبدة الكاكاو ورنين الاساور يراقصن فتيانا ذائبين شقرة, شبه عسل ايقظته النشوة من سباته..
شايي الاخضر يتلظى في وعاء نحاسي عليه رسم بارز لتنين صيني وزهرة اقحوان في كف بوذا, مكبلا برجولة مؤنثة, تجسده الكائن المكتمل في ازدواجه.
أتقصىّ لذعة الانوثة في رجولة سيدهارتا الجميل, أتقصى في أنوثتي صوتك وأقانيمك واسمك
فاكتمل اكتمال بوذا في تناهيه والتباسه, يلتبس بي الماء بين ان اكون انا او تكون انت او نكوننا في تجربة سيدهارتا المزدوجة التي تنسخ الحب وترسله الى محرقة الصمت في معابد الباغودات الذهبية..
نبات اللبلاب الانكليزي يتعرش على الرصيف والحاجز الخشبي ويمسك الرجفة الجائحة بين كتفي وعطري, ينحني صوتك الثمل على المساء, يغمسني في مجاز او إستعارة او ينكلّ بالنحاة المتربصين بنشوزنا, شبه قطاع طرق بين الكوفة والبصرة..
3
بنظرة جحيم سوداء من عيني جان كوكتو يتنزل الليل, بنظرة انثى مفتونة بالدم ترصدنا المدينة من افقها, فنلوذ بفداحة الصمت..
.. ليفرخ الصمت تهاويل من رؤى وتصورات عن مآل الإنسان فينا, يتسع الصمت لاحتشادي بك وانتهائي اليك, بحيرة غابة بولونيا تتشهى جسدا ناضجا تقتات على صخب الحب في عروشه, ترجئني شهوتها وانا أورق في الغبش وارسل براعمي الى الريح, يتقدم بي الوقت الى مدن من اصداء تجعلني اترنح في وحدتي, فتسندني رسائلك الاثيرية وترسخ خطوتي في المتاهة..
حدائق اللوكسمبورغ تهذي عشاقا وموسيقى وحمائم, رجلان مثليان يتعانقان فوق ربوة مزهرة, وشجرة الكاميليا ترى الى جمرنا مقسوما على قارتين, حدا مغوليا يستولد المستحيل من الممكنات, ويضاعف لغز المتاهات بين دين ودين وطائفة تفني سواها, وممالك ترص اللاجئين على تخوم الرمل بين صيحة ذئب وفحيح افعى..
حروف اسم جان كوكتو تتناثر على وجهه الشبحي في الملصق الذي تكرره سيدة بيت الشاي على الجدران – والممر شبيه خانات سمرقند او البندقية – اقواس وشرفات متناهية الحنان,
ا لملصق تعويذة عشق مهدد أو مزنة إيروتيكية مستعادة من غد محلوم به, وجه جان كوكتو يوغل فينا, وجه جان كوكتو النهم يحتسينا سوادا سوادا وينثرنا على الموائد, وجه جان كوكتو يوقظ فينا اورفيوس ويستغرقنا الرنين الاغريقي لقيثارته..
اقطف الحروف المائلة من وجه كوكتو لأضفر اللحظة بتاريخ الرماد ونكهة الشكولاتة ورنين الاناء النحاسي, ونبرتك ترسمنى طيفا يؤالفك وتتوجني بطوق من المعاصي..
وجه جان كوكتو يتربص بي ويسبر حبي و تقتات عيناه الليليتان على احزان هروبي في أضاليل نصوصه ونصوص مارغريت دوراس ولو كليزيو, سحرة القول هم ومروجو الضلال الجميل بين اللغات والجهات..
ترتعش نجمة ضالة على فمك انت الناسك الذي يؤدي مروقي الى اقانيمه وتؤدي كل نصوص العشق اليه..
4
نحن الكتاّب مبتكرو الوعود البارقة في منعطفات الحروب, فاشيو الرؤى الذين ترتبك باوجاعهم ملفات الانظمة وتتناثر اوهامهم فوق مدائح الجسد ويتراءى لهم انهم القابضون على قطب التحولات, وتندس ضغائنهم الأنيقة ومكائدهم في أجهزة التنصت, وتنتشي آلات التعذيب بدفء دمائهم وانين لحمهم المخترق بالأقطاب المكهربة و لذع الجمر والأسيد..
نحن الذين نتحامى باقنعة النص من المشنقة, كلما اتحنا للكلمات أن تتحررمن وأدها المزمن, كبلناها بالبلاغات وسكبنا على نضارتها رميم القواميس, وجعلناها أمثولة لنكوصنا عن مقارعة اغتصاب مخيلاتنا و تجفيف احلامنا..
كلما أوشكنا على حكاية نجاة تناوبتنا اصابع المكيدة, فانتبذنا لنا خلاصا أخرس في ضجيج الدول وتوارينا في النهايات سيئة التوقيت لسياسات القهر..
نحن الكتّاب ناهبو اللغات وسارقو المعنى المتوجون بأكاليل الغواية, نراهن على خسائرنا بتاريخ رجيم, ونفارق حاضرنا الى ما ليس لنا.
بين المروق وخروقات النص, بين اختراق التابو وجرح التاريخ, ما الذي يتبقى لنا سوانا؟؟
ها أنا أقف على تخوم البداءات: مذاق الحرب ولذة الحرية يتناوبان دمي, وانت شفرة قيامتي, وصورة جان كوكتو ترنم الانين البشري عبر هاتف يلتف حبله على عنق إمراة, جسدى يتناهى في السكوت في رحيق الشاي, في نبيذك الليلي في انوثة بوذا.
و جان كوكتو يقرر موتا ساعة يشاء العشق, يموت في اليوم ذاته, بعد موت إديث بياف بساعات..
يخبر صديقه: اظنني لن احتمل الوجود نهارا آخر وجبينها الضوئي منطفيء في الصمت..
جان كوكتو في آخر المدن الضاحكة يناولني قربان القيامة ويرسم على جبيني قوس الرماد
وأديث بياف تغني في جموع الشغيلة والنساء الضائعات والمشردين والتروتسكيين والجياع عند مقبرة بير لاشيز, قبرا قبرا تنفتح القبور برنين صوتها الوجودي, ويقوم الرجال وتهب النساء من الأضرحة ويجلو صوتها الحافي لون الرماد عن جبيني لأمضي بلا تاريخ الى حاضرنا الوشيك