تحت يميني الليلةَ، سبعة مفاتيح لخلق مكتوب. هذه واحدة من مِحَن الكتابة ومنغّصاتها البائنات. عليك أيّها الدرويش، أن تقشّر الفكرة من زوائدها، وأن تضبط بوصلتك صوب المقصد، وأن تخلع من مخّك المكتظّ، ستَّ فكرات يلبطْنَ ببطن القحف، كما لو أنّهنَّ ركلات ثورٍ أعرج، لتكتفي بواحدةٍ مستلة من باب البهجة.
في البدء عليَّ إخباركم بأنني واحدٌ من عتاة صنّاع الأحلام السعيدة. أحلامي ليست منامات، بل هي من الصنف الذي يسمّيه الحفّارون في النفس، أحلام يقظة وهذه ليست من تلك التي يتندّر عليها المتهكّمون الأوغاد، فيزرعونها في حقل أحلام العصافير.
على مبعدة رنّة كأسٍ من داري، ثمة عجوز وحيدة تعيش بغرفة بائسة ونافذة تطلّ على الشارع.
منذ عشر سنوات والمشهد لم يتبدّل، لكنّ الليلة يبدو أنها لا تشبه أخيّاتها الفائتات. نادتني الكهلة الطيبة بكمشة حروف مبهمة، ورشقة سعال متصل. كان باب غرفتها منفرجا وهي تلوّح إليَّ بالدخول. طلبت منّي أن أقعدَ لصقها، وكان بمقدوري أن أتشرّب بصفرة وجهها ووهن صوتها. حدّثتني عن إحساسها بخطوات موت ثقيلة تركب فوق قلبها، ثم أشارت بيمينٍ مرتعشة صوب صندوق خشبيٍّ عتيق. قمتُ متثاقلا متضعضعا من فكرة فراقٍ آتٍ بقوة، وجلبت الصندوق المغبر وشتلتُهُ برأس سريرها.
أخرجتْ من عبّها مفتاحا صدئا يشبه مفتاح دارٍ مغتصبة. قالت أريد منك أن تحتفظ بهذا الصندوق، وهو لا يحوي أشياء ثمينة، إنما هي صور ورسائل وشرائط ورسمات، ستجعلني نائمة مطمئنة في ذاكرتك الحميمة. جاهدتُ كثيرا كي أقنعها بتأجيل هذا الإحتفاء بموتٍ لم يحنْ بعدُ، لكنّها أصرّت على الأمر، وتمنّت عليَّ أن أدثّرها وأحمل الذكرى وأغلق الباب خلفي بهدوء. فعلتُ ذلك بقلب معصورٍ وأطفأتُ قنديلا أصفرَ باهتاً نازلاً من سقف العجوز.
داري الليلةَ موحشة، ويداي تفتشُ ببطن الصندوق الخاوي، كما لو أنني أنبشُ قبراً عتيقاً. في صندوقي الآن لوحة عنوانها “عازف الغيتار العجوز” مذيّلة بتوقيع بيكاسو الراسخ العنيد.
يا إلهي، إنني أقوم على كنزٍ لا يفنى، وأتوسّل إليك يا رحيم، أن تبقي عجوزي الجميلة، ولو سنة واحدة مسجلة بدفتر الحياة. سأبيع بيكاسو بمئة مليون دولار، وسوف أصنع لهذه المبروكة، جنّتها المفقودة على الأرض، وسأعوضها عن كل برد وجوع ووحشة السنين.
أمّا أنتم أصدقائي الصعاليك الأحرار، الذين طشّشتكم الأيام السود، حتى صار واحدكم لا يدري بأيِّ أرضٍ يموت، تعالوا إلى أعتابي، لأنّ في خراج لوحة بيكاسو خاصتي، حقُّ للشاعر والمحروم !!