على باب وداد الأورفه لي علي السوداني

ومن الكتب ما كان مثل أكلةٍ طيبةٍ تأكلها شويّة شويّة ، كي يبقى طعمها يلبطُ فوق اللسان حتى آخر لقمة . هكذا انفتحت أول بيبان الليلة فتأثثتْ مائدتي بكأس حروفٍ طيبات مخمّراتٍ من كتاب متعددة المواهب الجميلة وداد الأورفه لي التي أهدتْني مذكراتها اللذيذة سوالف بطريقة الحنطة مقابل التمر ، إذ أهديتها كتابي الطازج باص أبي تسوقُهُ مارلين مونرو .
في قرطاسها جاءت وداد على أيامها الأُوَل بمنطقة الأورفه لية بالباب الشرقيّ ببغداد ، وسمّت جامعها وبعض دكاكينها ومطاعمها وبيوتاتها ومدارسها ، فعدتُ معها على سنوات دكان عتيق صغيرٍ ربما سقط من ذاكرتها ، يخرج من بدن مطعم تاجران على شكل خط مائل تراه المارة بشارع السعدون ، أو القادمة من أول دربونة تصل خلفية عمارة مرجان بحلق شارع النضال . إنه محل ألبان فوزيّ الذي استأجره والدي في مفتتح سبعينيات القرن الفائت ، من صاحبه فوزي وعمّه أبو عباس الجميل المهيوب الأحمراني البغدادي القح . كنت وأخوتي نعاون أبي في غسل كاسات ونجانات اللبن الأصلي الرائب والشنينة أم البوزة ، وكان عاملنا القوي سبتي الكردي وأخوه وهّاب ، هما من يتلقفان دبة لبن الجاموس من سيارة حميد أو مجيد الضخم ، فيصعد بها سبتي إلى طبقة عليا في الدكان حيث الطباخ الكبير وغلي الحليب وتخميره وتغطيته فيخرج في اليوم التالي مغطى بطبقة مصفرة سميكة كأنها روح القيمر ، حتى صارت للدكان طنّة ورنّة عظمى ، وكان بعض عشاق لبننا لا يكتفون بأكل كاسة لبن أبو الكشوة وكيكة سادة فوق دكة المحل العالية ، بل يأتون بقدر او نجانة وسط يتركونها عندنا فيصب فيها سبتي الحليب ويدثرها مع المدثرات حتى اليوم التالي ، فيأتي صاحبها ويأخذها فرحاً ممتناً ، وذاكرة سنواتي الإبتدائية تشير إلى أنّ ثمنها كان مائة وخمسين فلساً وألف عافية أغاتي .

ظلّ فوزي صاحب الدكان مواظباً على زيارتنا كلّ عصرية حيث بيته يقع في خاصرة الزقاق مقابل دكان جميل أبو الشَكَر ، وأذكر أننا استأجرنا غرفة بواحد من بيوت الزقاق مقابل مدرسة مسائية نسيت اسمها ، جعلناها مخزناً للفوائض وأيضاً لتفريط الرمّان الأحمر بضربهِ بواسطة خشبة أو عثق نخل أجرد ، وبعد أن ننتهي من شغلة تفريط الرمان بطريقة حبة في القدر والثانية بالبطن والسواد على الكفّين ، نقوم بنقله إلى دكاننا العامر بالزبائن وجرّاوية الوالد الحنون ، فنبيعه عصيراً صرفاً ، أو نصنع منه شربت الرمان المشهور مع شوية صبغ وسكر وليموندوزي وكلاص حليب ، ونعبئه بماكنة زجاج فيها حنفية للصبّ وببطنها نافورة ، لتجنب تركيد وتبريك العصير حتى لا يصير بلالة وتتشوّه سمعة المهنة الحلال .

طبعاً لا أنسى منظر فوزي الأنيق عندما يأتي عصراً فيسلّم على الجميع وأولهم صاحب عربانة الخيار النبع ، فيخمط منه خيارتين مزفوفتين بضحكة قوية ، ويطلب منّا أن نغسلهما ، بعدها يبدأ فوزي عملية قرط الخيار التي سينتج عنها صوتاً ولحناً هائلاً ، قد تسمعهُ الناس الناطرة بشوق ، جرسَ سينما السندباد الرحيم . آهٍ كم يوجعني قلبيَ الآن ياوداد.

Facebook
Twitter