عكاز الاب إمرأةعلي السوداني

هذا منظر رحيم لذيذ ظلّ يتناسل قدّامي منذ عشر سنوات. أظنني كتبت تفصيلا منه قبل سنة أو ثلاث. ربما استعملته ثريّا لنص مؤجل، لكنّ البائن الليلةَ هو أنني لست على نية خلق قصة قصيرة جدا. هو رجل أشيب بوجه أحمر يتكئ على أوشال العمر، ينزل بطيئا ثقيلا من خاصرة الزقاق، مستعينا بعكّاز خشبيّ مرصّعٍ بمعدن فخم كأنه إشارة صائحة لتأريخ مجيد. بيمينه العكاز الباشويّ وبشماله يد امرأة قوية بدت عليها حلاوة أول الأربعين المدهشة. بمقدوري قنص تمام المشهد المحبّب من مرقب شرفتي الحميمة، حتى استحال الأمر إلى طقسِ شغفٍ يوميّ منتظر.
الحقّ هو أنني لم أكن عادلا في توزيع بصبصاتي على هذين الكائنين الحبيبين، إذْ كنت أزرع على الرجل الشائب وابتسامته المزمومة نظرة، ثمّ أنقل كاميرتي القنّاصة صوب الأربعينية المذهلة مثل وجد صوفيٍّ شهيد.
على مدى عشر سنوات، كنت أنطر تلويحة سماوية تنفلت من أحدهما، لكنّ تلك اللحظة المشتهاة لم تحدث أبدا. ربما كان هذا التمنّع هو آخر مصدات الرجل السبعينيّ، من أجل إبقاء نظراتي الذئبية خارج مدى التقويس الجسديّ الضحل.
لا أذكر أنني شاهدت مرة البنت الأربعينية الفائرة، بلباسٍ غير بنطلون الجينز الذي يعصر جسمها الفذّ بقوة، وحذاء مقمّش من الصنف الذي يركبه المشّاؤون البائسون. في الصيف سيبدو المنظر بديعا وطيبا، حيث قميص المرأة التي سدّت مسدّ عكاز، يفصح عن شيّالة أثداء قد تكون سوداء أو مستلة من عتمة نائمة في رأسي.
مرّ أسبوع على غيبة هذين الكائنين المفتقدين. قدّرت أنّ الرجل على مرض لا يقدر معه على حمل طوله الثقيل، وذرع زقاق الياسمين ثانية. البارحة عصرا، هبط خمسة شباب مهرة من على ظهر شاحنة زرقاء لقيطة. كانوا يتحركون برشاقة مثيرة، كما لو أنهم يؤدّون رقصة. بسرعة وخفة أنهوا نصب خيمة طويلة فوق إسفلت الشارع، ثم غادروا المكان من دون أن يخسروا دمعة فائضة. أمّا أنا المرتبك الملتبس الدائخ، فلقد واصلت رسوخي على حافة الشرفة، أنصت خاشعا تالفا متضعضعا، للمصريّ السلطان عبدالباسط محمد عبدالصمد، وهو يلوّن بصوته العذب المُشجِن، عصرية المرأة الأربعينية الباذخة، وقد صارت عكازا مهجورا ما إليه أب.

Facebook
Twitter