الأمور الى مساالسكوت ليس دوما يدل على القبول والرضا، ففي الكثير من الأحيان يدل على الرفض وعدم القبول ولكن اللجوء إليه يأتي لأسباب قاهرة لا يستطيع المرء تحملها يقول كثير من سكان الموصل.
السكوت هو الخيار الأصعب الذي لجأ إليه أهالي الموصل في مواجهة تنظيم داعش منذ انسحاب القوات الأمنية من المدينة في العاشر من حزيران عام 2014 ولغاية الآن، وفي ظل آلة القتل والبطش التي يمارسها التنظيم على مدار الساعة تجاه كل من يخالف ابسط أوامره عم الخوف أوساط النخب الموصلية والأهالي عامة وجعلهم يرضون بالأمر الواقع والتكتم على إعلان رفضهم لهذا الواقع المرير الذي يعيشونه على امل دخول القوات المحررة وانهاء هذه الحقبة دون رجعة.
تشير تقارير محلية ودولية صادرة عن مؤسسات تعنى بحقوق الانسان الى ان تنظيم داعش قتل منذ سيطرته على الموصل ثاني اكبر مدن العراق الالاف من أبناء المدينة تحت ذرائع وحجج مختلفة الا ان السبب الحقيقي وراء قتلهم هو رفضهم لسياسة التنظيم ولجميع ممارساته.
وتفيد التقارير بان داعش استخدم ابشع الطرق لقتل ضحاياه فقام برمي البعض منهم من اعلى المباني بتهمة اللواطة ورجم البعض الاخر بتهمة الزنا ونحر اخرين بتهمة التآمر على خلافته المزعومة والتعاون مع القوات الأمنية وغيرها من الحجج الواهية التي تخفى ورائها لتنفيذ اعمال القتل البشعة ما دفع بالمدنيين الى تجنب كل شيء قد يخالف التنظيم خوفا من ان تطالهم آلة القتل تلك.
يعرف المجتمع الموصلي بأنه من أكثر المجتمعات العراقية حفاظا للعادات والتقاليد وتمسكا بها فهو مجتمع مغلق قائم على الاحترام فالعائلات حرصت على تربية أبنائها وتعليمهم الالتزام والانضباط وحسن السلوك هكذا يُعرف الخبير الاجتماعي فؤاد عبد الله المجتمع الموصلي ويتابع ان هذه المميزات استغلها تنظيم داعش في فرض سيطرته على المدينة بقبضة من حديد وأخرى من نار لذا حرص على تنفيذ جميع عمليات قتل المدنيين الذين عارضوا سياسته منذ اليوم الأول بنحو علني من اجل نشر الخوف والقلق بين الأوساط الشعبية ومنع حدوث تمرد ضده كما لم ينفذ عملية قتل واحد الا واتهم الضحية بتهمة مخجلة ومرفوضة شعبيا لكي يذل اهل وعشيرة تلك الضحية ولكي يجعلهم مطأطئين رؤوسهم لا يستطيعون المطالبة بالثأر ولا يمكنهم من كسب ود الأهالي والوقوف الى جانبهم في محنتهم, هذه السياسة وغيرها أسهمت الى حد كبيرة في اضعاف جماح رغبة المدنيين في التخلص من التنظيم وشتت جهود الثورة الشعبية.
يقول المحلل السياسي داود الحافظ إن “سياسة الحكومة الاتحادية تجاه أهالي مدينة الموصل قبل تاريخ 10 حزيران عام 2014 وبعده عززت من سيطرة تنظيم داعش على المدينة بشكل تام، فقبل هذا التاريخ كانت المدينة وساكنوها يعانون الأمرين من اغلاق للطرقات واعتقالات عشوائية وابتزاز وانفلات أمني واغتيالات للكفاءات السياسية والدينية والعلمية والثقافية والاجتماعية وتضيق للحريات ومصادرة للآراء ما أوجد الرغبة لدى الكثير من السكان في التغيير حتى وان جاء هذا التغيير على يد تنظيم مسلح”.
وتابع “اما بعد تاريخ 10 حزيران عام 2014 فقد تسببت سياسة الحكومة الاتحادية تجاه سكان الموصل من سيطرة تنظيم داعش على المدينة فتجاهلها لصرخات الاستغاثة التي تطلق كل يوم والاستعانة بالغة التهديد والوعيد واغلاق جميع الطرق والمنافذ المؤدية الى العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى واللجوء الى القصف العشوائي للأحياء السكنية والتغاضي عن معاقبة المقصرين الحقيقيين من القادة العسكريين الذين كانوا السبب في ملف سقوط المدينة عزز من سيطرة التنظيم وجعل منه قوة فعالة لا يمكن هزمها داخليا”.
يصف الخبير العسكري عبد اللطيف سعدون من يطالب أهالي الموصل بتحدي تنظيم داعش والانتفاض ضده بـ”المغفل” الذي لا يعرف شيئا عن ابسط الأمور ولهذا الوصف أسبابه برأيه ومنها ان “هذا التنظيم هو المصنف الأول عالميا من حيث أكثر التنظيمات الإرهابية التي تمتلك العدة والعدد والأموال ويظهر ذلك جليا في سيطرته على مساحات شاسعة من سوريا والعراق وليبيا ونجاحه في تنفيذ هجمات مسلحة في فرنسا التي تعد قلب اوروبا وفي مصر كذلك تنفيذه هجمات ضد المصالح الروسية وهو قادر على المواجهة والحاق الضرر بجيوش دول منظمة وليس بمدنيين عزل, منوها سعدون الى ان سياسة القوات الأمنية التي مورست على مدار أعوام تجاه أهالي الموصل فضلا عن تجريدهم من ابسط أنواع الأسلحة عقّد الامر وجعل عنصر الانتفاض بل تنفيذ عمليات مسلحة فردية بشكل متكرر ضد عناصر التنظيم أشبه بالمهمة المستحيلة”.
الخبير العسكري عبد اللطيف سعدون يتابع حديثه بالتأكيد على ان أي “محافظة عراقية أخرى لو فرض تنظيم داعش عليها كما فرض على نينوى لما تمكنت من المقاومة بل لربما تعدى الامر الى ابعد من ذلك وانخرط الاف المدنيين الى صفوف التنظيم وسط هذه الضغوط والأجواء المغلفة بالإغراءات والممارسات غير الأخلاقية الأخرى، عادا مواصلة أهالي الموصل لحياتهم اليومية دليل على تمسكهم بوحدة البلاد ورغبتهم بالعودة الى أحضان الوطن من جديد في أسرع وقتٍ ممكن”.
استهدف تنظيم داعش مختلف شرائح المجتمع الموصلي فقد شن حملة اعتقال وقتل طالت علماء الدين والصحفيين وضباط الجيش العراقي السابق والأطباء والمهندسين ومنتسبي الأجهزة الأمنية وأساتذة الجامعة والمعلمين ومرشحي الانتخابات البرلمانية وموظفي الدوائر الحكومية كافة بل حتى الطبقات الكادحة لم تسلم من اعماله وممارساته الاجرامية ما اضطر للكثير من تلك الشرائح الهروب الى خارج المحافظة واللجوء الى محافظات الشمال والوسط والجنوب والى خارج البلاد أيضا بانتظار التحرير للعودة من جديد الى المدينة والمساهمة في إعادة عملية اعمارها وتأهيلها.
تعيش مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق من حيث الكثافة السكانية أوضاعا اقتصادية متدهورة جراء قطع الحكومة الاتحادية لرواتب الموظفين منذ نحو تسعة أشهر وتوقف اغلب المهن عن العمل واغلاق الطرقات التي تربط المحافظة بالمناطق الداخلية والخارجية بالتزامن مع نفاد اغلب المدخرات المالية للمدنيين وارتفاع نسب البطالة هذه الأوضاع يعدها المحلل الاقتصادي الموصلي الذي فضل ذكر الحرف الأول من اسمه فقط (ش، ا) كونه ما زال داخل المدينة ويخشى من ان يصله التنظيم, عدها السبب الرئيس في استمرار احتلال المدينة من قبل داعش, فالجميع حسب قوله منشغلون بكيفية تأمين لقمة العيش التي بات تأمينها اشبه بالبحث عن “ابرة وسط كومة قش”.
ويزيد المحلل الاقتصادي الموصلي (ش، ا) ان “الوضع الاقتصادي لو كان جيدا لتفرغ الأهالي الى اصلاح أوضاعهم الأخرى وفي مقدمتها التخلص من عصابات داعش وانهاء سيطرتها بشكل او باخر”.
وبحسب شهادات سكان محليين ان تنظيم داعش اوجد شبكة استخباراتية في كل مكان تمده بالمعلومات عن المعارضين له ليقوم على الفور باعتقالهم وقتلهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، حيث أكد السكان أن “التنظيم قام باعتقال المئات من المدنيين وقتلهم على خلفية نطقهم بكلمة واحدة رافضة لوجوده وكان اخرها اعتقال معلمة موصلية وقتلها بعد اعترضها على تدريس الأطفال للمناهج الدراسية في المدارس كونها تحتوي على مواد تحرض الأطفال على التطرف والقتل والكراهية.
وقام مؤخرا باعتقال شيخ جامع في منطقة الفاروق غربي المدينة وقتله لرفضه حث الشباب في خطب الجمعة على التطوع ومقاتلة القوات الأمنية وغيرها من الحالات المشابهة التي تحدث كل يوم تقريبا.
ويستشهد السكان بـ”حفرة الخسفة” على قمع التنظيم واضطهاده لمعارضيه في نينوى والحفرة هي عبارة عن تجويف طبيعي قديم في سطح الأرض، يبلغ عمقها 25 متراً وقطرها نحو 60 متراً تقع في قرية العذبة التابعة لناحية القيارة جنوب الموصل القى فيها تنظيم داعش الالاف من الرجال والنساء الرافضين له بعد قتلهم رميا بالرصاص او رميهم فيها وهم احياء بعد تكسير ارجلهم وايديهم ليلقوا مصرعهم أثناء سقوطهم في هذه الحفرة العميقة التي تعتبر واحدة من أكبر المقابر الجماعية حتى الآن شهدتها المحافظة، إذ يتجاوز عدد الجثث فيها وفق شهادات محلية 1500 جثة، تم قتلهم على فترات مختلفة طيلة الأشهر الماضية.
المحلل الاستراتيجي الأمني عبد القادر خليل يؤكد إن “دولة داعش المزعومة في نينوى والمناطق التي يسيطر عليها تدار بالقتل والتنكيل وهو ما يجب على الجميع معرفته ، وان جرائمه ضد المدنيين ترقى إلى الإبادة الجماعية وفق القانون الدولي لحقوق الانسان”، مشددا على انه “وفق دراسة الوضع الأمني الداخلي في المدينة فان المدنيين العزل لن يتمكنوا من احداث تغيير شامل والاطاحة بخلافة الدم على الأمد القريب بل يتطلب تحقيق ذلك دعمٍ فوري خارجي من قبل الحكومة الاتحادية والتحالف الدولي يكون هذا الدعم على مستوى كبير جدا لمساندة الأهالي في الداخل والنجاح في الوصول الى الهدف المنشود الاوهو انهاء سيطرة تنظيم داعش وفك القيود عن المدينة”.
الأوضاع الصعبة والمعوقات التي استعرضت “شفق نيوز” جزءا منها في هذا التقرير لم تمنع أهالي الموصل او تقف حجر عاثر في طريقهم لتنفيذ اعمال مناهضة ضد التنظيم فمن هذه الأعمال التي دللت على رفض الأهالي للتنظيم وتحديهم لسياسته إزالة راياته ورفع العلم العراقي في أكثر من مناسبة فوق المباني وسط المدينة واغتيال الكثير من عناصره بالأسلحة الخفيفة وامتناع الأهالي الالتزام بأغلب أوامره ولعل أبرزها عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس لكي لا يتعلموا أفكار التطرف التي يبثها التنظيم ورفض الشباب الانخراط ضمن صفوفه رغم الإغراءات التي يقدمها والضغوطات التي يمارسها عليهم.
أهالي الموصل بكل طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم يؤكدون أنهم تحملوا وزر هروب القوات الأمنية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة والمعدات القتالية الأخرى ليواجهوا وحدهم أشرس هجمة يشهدها التاريخ الحديث، مشددين على انهم رغم ذلك ما يزالوا يطالبون جميع العقلاء من العراقيين كي يعيدوا التفكير في مواقفهم وان يأخذوا بزمام الامور ويتكاتفوا معهم لإعادة رها الصحيح.
- info@alarabiya-news.com