موحش هو مساء الدرويش مثل سرة مقبرة. ثمة كدمات تلبط فوق جسده من مكرور حلم القطة السوداء. القطة الآن صارت حقيقية، وبدت ألعن وأقسى من تلك التي حطمت منامي البارحة.
كنت أحمل كيس الزبالة صوب الحاوية، حتى قوست ظهرها ونفخت بوجهي فأحسست بشعرِ جسمي وقد توتر مثل شوك القنافذ. عقدة قططية عتيقة من زمان الطفولة البائسة.
دخلت “بزونة” سوداء إلى غرفة من بيت العائلة القديم، فسحبنا أرجلنا الغضة أنا وأخي الأصغر جاسم، وأغلقنا خلفنا باب الديوانية الفارغة إلّا من سجّاد الجلوس.
كنتُ أحمل بيميني نبالة مريشة تستعمل في رهان الحظ ودقة التصويب على لوح خشبيّ مرقّم تسمى نجاخة بتعجيم الجيم. القطة المسكينة كانت انزرعتْ على عتبة الشباك تبتغي هروبا ممكنا حتى عاجلتها برمية لا تثنى فانغرس السهم بظهرها فتخبلت، فصارت الديوانية عليَّ وعلى أخي أصغر من قبر طريّ، وصار البابُ أبعدُ من سور الصين.
ما زلتُ حتى اللحظة أعيش منظر هروب القطة المسكينة، وفوق ظهرها ترفرف نبالة الصيد. مرتْ على الواقعة أزيد من أربعين سنة، لكنها ما زالت تتجدد في مناماتي فتهلكُ جسدي مثل ثأر مؤجّل.
كأن الكآبة سلسلة لا تنقطع. قبل ساعة انتهيتُ من مشاهدة فيلمٍ اعتبرته واحداً من كلاسيكيات السينما العالمية. عازف بيانو مشرد يعيش على فوائض الجند. يعتني به ضابط عدو ويوفر له الطعام وآلة بيانو ببيت مهجور.
أحببتُ الضابط الهتلريّ الذي كان يذوب بموسيقى هذا المبدع الشريد، لكنَّ القصة لم تأتِ ريحها بما يشتهي قلبي. أُسر الضابطُ ومات، وعزف المشرد الناجي أعظم معزوفاته. قطعة إنسانية مذهلة من شريط حرب مجنونة.
حاولتُ ترميم ليلتي المنتهكة بحليميات وكلثوميات ووهابيات وفيروزيات، لكنني ذهبتُ إلى أوجع أغنياتهم التي أنصتُّ إليها فكانت مثل حنفية يابسة بحلق عطشان. جرّبتُ فتحَ هاتفي المغلق دائما فتلقيت دفعة من رسائل تعرض تنزيلات هائلة ومطاعمَ فخمة وسفرات برخص التراب ودعوة إلى أمسية شعرية.
في الواقع أنا أكره أماسي الشعر وأصبوحاته، خاصة تلك التي فيها شاعرٌ يقرأ قصيدته الطويلة كما لو أنّه امرأة جاءها الطلقُ وببطنها توأمٌ لائبٌ فوق عشر رفسات