كم حاولوا ان يصفوا عبد السلام عارف بصفات السوء من الجهل والرعونة الى الطائفية والحقد وذلك خدمة لا هداف أسيادهم، الذين شكل عبد السلام عارف بدوره الشجاع حجر الزاوية في مشروع اسقاط كيانهم السياسي الذي بناه الاحتلال البريطاني في العراق.
ولكن التاريخ يبقى أمينا على حقائقه لان ارادة الله تظهر فيه ولو بعد حين، وقد نشرت الصحيفة العربية مشكورة، مقالة للدكتور صبحي ناظم توفيق، وفيها رواية مباشرة عن لقاء سفير شاه ايران المعين في بغداد سنة 1964م مع الرئيس عبد السلام عارف لتقديم اوراق اعتماده اليه، حسب الاعراف الدبلوماسية، وقد ذكر في البداية الروايات المشوهة وغير الواقعية عن الحادثة ثم اشار الى الرواية الحقيقية لها، نقلا عن شاهد عيان وهو وزير خارجية العراق آنذاك صبحي عبد الحميد، حيث حدثه الضابط النزيه والسياسي الكبير مباشرة عن هذه الحادثة التي جرت في القصر الجمهوري بحضور السفير الايراني الجديد مهدي بيراسته وامام رئيس الجمهورية عبد السلام عارف ووزير الخارجية الذي روى القصة، ومدير التشريفات في القصر الجمهوري، وهي رواية رائعة تشير الى شخصية عبد السلام عارف الحقيقية التي تتسم بالوعي والوطنية والشجاعة ونظرته المضادة للطائفية ـ تقول نص الرواية
حديث السيد “صبحي عبدالحميد”:-
(((خلال شهر نيسان1964 كنت متبوئاً منصب وزير الخارجية في وزارة “الفريق طاهر يحيى” الثانية، وقتما قررت الدولة الإيرانية تعيين “سيد مهدي بيراسته” المقرب من شخص “شاه إيران” سفيراً لها في العراق، بعد أن ظلّ “المستشار هاشم حكيمي” قائماً بالأعمال حوالي سنة ونصف السنة.
وبعدما تحققنا من كامل هويته وسلوكه وتدرجه المتلاحق في المناصب، وآخرها محافظ “ولاية فارس” قبل أن يتبوأ منصب وزير الداخلية، أبلغنا الجانب الإيراني بقبولنا لإياه سفيراً لبلاده لدينا، وبعثنا موظفين من دائرة مراسم وزارتنا لإستقباله رسمياً عند بلوغه مطار بغداد الدولي، وتهيأنا للمراسم المعتادة لتقديم أوراق إعتماده في القصر الجمهوري قبل أن يُعَدّ ماسكاً لمنصب السفير.
كنت على يمين السيد رئيس الجمهورية تحت القبة الزرقاء للقاعة الرئيسة للقصر، وقد وقف إلى يساره الزميل “إبراهيم الولي” رئيس دائرة التشريفات في ديوان الرئاسة، وقتما دخل السفير المعين “سيد مهدي بيراسته” يرافقه القائم بالأعمال “المستشار هاشم حكيمي”، والملحق العسكري بالسفارة “العقيد معصومي”، يصحبهم المترجم الأقدم بالسفارة “سيد تيجاني”… ولكننا إستغربنا -بعض الشيء- من تفقد “سيد بيراسته” لمجموعة من الأوراق أخرجها من حقيبته الدبلوماسية الكبيرة التي كان يحملها -على غير العادة المتبعة- حتى إنتبه السيد رئيس الجمهورية قائلاً:- “يبدو أن السيد السفير قد نسي شيئاً لم يجلبه”…. وعندها إستدرك السيد “بيراسته” الموقف فأسرع بإخراج أوراق إعتماده التي يجب أن يقدمها بيديه قبل أي شيء آخر، حتى وجه الرئيس كلامه إلى رئيس تشريفات الرئاسة بقوله:- “كان يجب أن يُلَقـَّن السيد السفير بعضاً من أسس البروتوكول الضرورية”.
وبعد تسلـّم أوراق الإعتماد بدأ السفير بتلاوة صفحات عديدة كان قد أعدها مسبقاً وأطال فيها كثيراً -ونحن وقوف بوضع أشبه بإستعداد عسكري حسب الأصولالسائدة- متطرقاً إلى تأريخ العلاقات بين الدولتين الإسلاميتين الجارتين وجغرافيتهما والوشائج بين شعبيهما والعشائر ذوات الأصول والجذور الواحدة التي فرّقتها الحدود المشتركة التي رسمها الإستعمار، حتى بلغ عبارة:-
“أن جلالة الشاهنشاه محمد رضا بهلوي المعظم يرفع إليك أسمى آيات السلام -يا فخامة الرئيس- ويتأمل منك الحرص على شيعة العراق”!!؟؟ إنتبه السيد الرئيس وخاطبه بلهجة أمر:-“قف عند حدك… شيعة العراق عرب أقحاح، وهم مواطنونا وأهلنا وأعزاؤنا وفي قلوبنا، وليسوا بحاجة لكائن من كان ليصبح وصياً عليهم… وهذا الذي تفوهت به أعتبره تدخلاً في شؤوننا الداخلية لا نقبله من أحد… لذلك أرفض أوراق إعتمادك، فإستلمها وأخرج، وبلغ سلامي لشاهنشاهك ليبعث إلينا سفيراً أكثر أدباً وأصولاً… إنتهت المقابلة”… قالها “عبدالسلام عارف” وأدار ظهره غاضباً وعاد بخطىً مسرعة إلى مكتبه الرسمي.
فوجئ “سيد بيراسته” بذلك، فبدأ يصيح ويزمجر وسط القصر، حتى وجهناه -أنا ورئيس التشريفات معاً- مع صحبه وأجلسناه في غرفة التشريفات محاولين -ومعنا مرافقوه- تهدئته وتبيان أن مثل هذه العبارات لا يمكن النطق بها أمام رئيس جمهورية وفي مثل هكذا مناسبة عند تقديم أوراق إعتماد، بل ربما تـُطرح في لقاء خاص أو على إنفراد وسط مناسبة عامة… ولكن “سيد بيراسته” لم يهدأ، بل ظل يطالب -وبصوت عالٍ- أنه لا يمكن أن يرضى بأقل من إعتذار فوري -وأمام الجميع- عن تجاهل الرئيس لشخصه وتركه لإياه ومغادرته قاعة المراسم… فأوضحنا له أن ذلك ضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه… فتوجه لسيارته وغادرنا غاضباً ومتوعداً.
أقام “سيد مهدي بيراسته” في “بغداد” لأسبوعين متتاليين، ولكن بصفته الشخصية وليست الرسمية، ولم نتعرّض له أو نتخذ إجراء حياله رغم علمنا بزياراته للبعض من السفراء والقناصل، وبالأخص السفارة الأمريكية المتاخمة بمبناها الضخم للقصر الجمهوري، ملتقياً في أروقته -حسب معلوماتنا- بالعديد من موظفي وكالة المخابرات المركزية (C.I.A) داخل السفارة، وذلك قبل أن يعود إلى بلده بسيارة رسمية عبر منفذ “قصر شيرين” الحدودي.
وبينما عاد “المستشار هاشم حكيمي” لممارسة مهماته قائماً بالأعمال، فقد ظلت المكاتبات بين وزارتنا والخارجية الإيرانية سجالاً حول إعتماد سفير آخر لدينا… إلاّ أن وساطة من وزارتي الخارجية التركية والباكستانية وسفيريهما في “بغداد” مهّدت لتهدئة الموقف بعد (7) أشهر كي نقبل “سيد مهدي بيراسته” ذاته سفيراً في “بغداد” شريطة أن يتصرف بكل أدب بصفة “سفيراً” في بلد غير بلده… فعاد إلينا أواخر عام (1964) ليقدم أوراق إعتماده ثانية للرئيس “عبدالسلام عارف” الذي بدوره طلب منه إعتذاراً عن تصرفه السابق وصراخه غير اللائق في أروقة القصر الجمهوري، فتم ذلك. ولكننا تلمّسناه -من بعد ذلك- سفيراً على درجة عالية من المهنية والإنصياع في أداء مهماته الدبلوماسيةبكل أصول… وقد علمنا قبل ذلك أن “شاهنشاه إيران” قد وبّخه حيال ذلك التصرف، لافتاً نظره أن لكل مقام مقالا، وعلى صاحب منصب السفير أن يكون “دبلوماسياً” قبل أي شيء، وعليه قلب أسلوبه في تسيير الأمور عكس ما كان عليه في منصبيه السابقين محافظاً ثم وزيراً للداخلية في بلده، واللذين يتطلـّبان شدة وحزماً وقرارات حاسمة ينبغي أن لا تـُثنـّى ولا تـُناقش بعد إتخاذها))). ((إنتهى حديث السيد صبحي عبدالحميد))
أيـــن أصبحــنــا؟؟؟ وكيف؟؟؟ هكذا كنا لا نتقبل عبارة تمس بلدنا وسيادتنا وشؤوننا الداخلية… لكننا اليوم ومنذ الإحتلال الأمريكي البغيض الذي دمّر وطننا الحبيب وحلّ قواتنا المسلحة وجعل حدودنا سائبة أمام كل من هبّ ودبّ، وفرض علينا نظاماً سياسياً أفضى إلى تفريقنا طائفياً ومذهبياً ودينياً وعرقياً وجغرافياً وأضحى أحدنا يتصيّد للآخر ويتسلـّح للإجهاز عليه في أية فرصة سانحة، وأعدّ الأمريكيون لنا دستوراً يؤول بنا إلى التفرّق والصدام وقسّمنا إرباً إرباً، فأضحى عراقنا السائب طـُعماً لهذا وذاك ليقتحمونا من كل حدب وصوب كي يقتلوا ويذبحوا ويفجّروا ويُخرّبوا ويُفسدوا وينهبوا ويسرقوا، وبهذا التخطيط المتقن تعمّدوا إشغال الإرهابيين في أرضنا كي ينسوا أوروبا والولايات المتحدة فتنأى شعوبها وأوطانها من شرورهم إلى مستقبل بعيد… وكل ذلك قبل أن يتركوا “العراق المحتل” أواخر (2011) وهو ما زال في منتصف البئر، فلا به يخرج بجلده سالماً، وإن حاول ذلك سقط في القعر، حتى غدونا على ما نحن عليه من ((ملطشة)) هذا و((مكفخة)) ذاك، فكل الجوار والغرباء والأجانب تدخلوا، وما زالوا وسيواصلون، تحت هذه الذريعة أو تلك، ونحن فرحون وفخورون ومتفائلون -ما شاء الله- بوسائل إعلام تدفعنا للمزيد من الفـُرقة إلى جانب السلاح والمال والمعدات الـمُغدقة علينا لمحاربة الإرهاب وبـ((المجاهدين المسلحين)) بحجة الدفاع عن هذه الطائفة وذاك العرق وتلك الأرض وذلك الدين، حتى فتحوا علينا جحيم “القاعدة، وجبهة الــ؟؟؟، وجيش الــ؟؟؟، ثم أستجلبوا “د.ا.ع.ش” ليحتل (ثلث) وطننا فيقذفنا في أتون صراع دموي مرعب وخراب كارثي وإفلاس مالي يستحيل الخروج منه وسط المصروفات اليومية الهائلة لأغراض الحرب، ف(تكرم) علينا (65) دولة بزعامة “واشنطن” ضمن ما سمّوه بـ”التحالف الدولي” تتوسطها (3) دول عظمى لتفتح مخزوناتها من الأسلحة المستهلكة والأعتدة والذخائر المخزونة والمعدات العتيقة والتجهيزات البالية المكدّسة في مستودعاتها إثر إنتهاء “الحرب الباردة”، فدمّر بالقصف الجوي الهزيل -الذي رحّبنا به- مدننا وقرانا، لـنـُجبَر على صرف المليارات لإعادة إعمارها، شريطة أن ((نزهو ونفرح ونرحب ونهلـّل ونحتفل)) بـ((تحريرها)). ولكل ذلك -ولأسباب عديدة أخرى يؤسفني التحفظ عليها- فإني لا أرى موجباً في إطالة الإجابة على هذا التساؤل الذي يفرض ذاته بقساوة على كاهلنا وأعماقنا وصميمنا سوى بإستذكار ما تفوّه به الشيخ “أبا عبد الله محمد بن إدريس الـمُطـّلِبي القـُرَشي” المعروف بـ”الإمام الشافعيّ” قبل (13) قرناً مضى:- نعيب زماننــا والعــيب فينــــا وما بزماننا من عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير حــــق ولـو فطن الزمان لنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ونأكـل بعضنا بعضــاً عيانــا