إستذكار إنساني لعذابات مدينة زائلة في رواية (خلف السدة)
هذه الرواية توثق لمرحلة مهمة من تأريخ العراق ، ومدينة بغداد خاصة ، في تناولها لبدايات الهجرات الاولى في العراق والأرياف والهور الى العاصمة ، وتصور مرحلة ما قبل نشوء مدينة الثورة (الصدر حاليآ) ، ثيمتها تقوم على الهجرة السكانية الهائلة من وسط وجنوب العراق في اوائل الخمسينات هربا من تعسف الاقطاع والانعتاق من الفقر والامتهان.أناس نزحوا ممتلئين بالحلم والرغبات والاماني التائقة للحياة المرفهة التي سمعوا عنها في العاصمة ، ليستوطنوا خلف سدة ناظم باشا في ارض خلاء سميت فيما بعد (الشاكرية) بنوا فيها اكواخا متلاصقة ببعضها بغير انتظام من الطين و(البواري)المصنوعة من القصب، وسعف النخيل ، حالمين بحياة افضل ، في تجمع بشري غير متجانس مع العاصمة متاخم (لكرادة مريم) بقصورها وبساتينها الكبيرة . كتب عبدالله صخي عن (الشاكرية)عبر ذاكرة متوقدة بعد مرور اكثر من اربعة عقود على ازالتها احياء لهذه البلدة التي ضمت بقعتها اكبر هجرة ونزوح جماعي لأهالي الجنوب في اواسط القرن الماضي ، الى جانب ما لها اي للشاكرية من اهمية في التاريخ السياسي والواقع العراقي ، اذ تناسلت منها المدن في وسط واطراف بغداد ولعبت دورا بالغ الاهمية في الاحداث السياسية طوال خمسة عقود حتى وقتنا الراهن. وقد يجد البعض في الرواية مذاقآ خاصا ، ومتعة كبيرة لمن ولد وعاش طفولته في (الشاكرية) كونها تنقله الى زمن الطفولة البعيد ، وعالمها المثير وذكرياتها المريرة والشيقة ، سيما وان المؤلف رسم مشاهد حية ومتحركة ، لأهالي الاكواخ والصرائف ، متنقلا بكامرته بين الساحات والازقة المتربة والخرائب ، والحواري الضاجة بسكانها الريفيين البسطاء ، مقتربا من التفاصيل الدقيقة لحياتهم ومعاناتهم وهمومهم وآمالهم ، بخبرة المطلع المعايش لهم ، في اشارة الى ان الروائي هو احد ابناء مدينة (خلف السدة) ، التي لم يبق في اذهان من عاش فيها بعد تراكم الزمن الا ذكريات عابرة ، وبقايا حكايات ، واشباح شخصيات تكاد تمحى من الذاكرة ويطويها النسيان من اذهان سكانها الاحياء لتقادم الاعوام القاسية والاحداث الجسام التي تلت تلك الحقبة البعيدة ، لمدينة نبتت كالفطر ثم ازيلت بعد اعوام قليلة بالبلدوزرات ، لكنها ظلت كالحلم تثير المخيلة وتمنح لذة لمن عاش فيها ، عند استحضارها في ذهنه . الروائي منذ الصفحات الاولى يرصد بلغة مكثفة ملؤها الشجن وصول الافواج الاولى من المهاجرين يقودهم السيد جارالله في (مسيرة ضخمة ومرهقة لاولئك الحالمين بحياة جديدة بعد ان قطعوا مسافات طويلة في عربات خشبية مفتوحة الجانبين ، لها سقوف من شعر الماعز ، تجرها خيول ارهقتها الدروب الوعرة ، والمستنقعات الجافة المتشققة ، كانت وجوه الرجال مغبرة ، ملفعة بكوفيات تنحدر منها جدائل مرصعة بالعفص والخضرم والودع ، ولها نهايات تيبست من العرق والغبار، على ذقونهم نمت لحى كثة علقت فيها انصال التبن واعواد القش ، كانت اجسادهم نحيلة وملابسهم ملوثة بالتراب) السيد جارالله هو الذي اختار مكان البلدة ثم غيبه الموت في الايام الاولى لإنشائها ، حيث قاد قوافل النازحين الاوائل في ذلك الصيف اللاهب.. اوقف فرسه في ارض خلاء بين السدتين اللتين انشئتا لحماية بغداد من الفيضانات وشرع ببناء كوخه فأنطلقت الجموع ببناء الصرائف والبيوت الطينية في تلك الأ رض الجديدة التي لم يطأها احد من قبل ، هكذا دون لنا المؤلف بأسلوب ملحمي مكثف ، وبنيات سردية متقنة قصة ولادة (الشاكرية) واصفا حياة اناسها الفقراء المتعبين متوغلا في تفاصيل يومياتهم عبر مخاض الاحداث والوقائع والصراعات والتداعيات ، ناقلا صورا ومشاهد شتى عن هموم العاطلين ، والاعمال المضنية في معامل طابوق لقاء اجر زهيد ، حسرات الامهات ودموعهن ، احلام الصبية والفتيات ، البرك المتجمدة التي يخوض فيها الاطفال في مواسم الشتاء عن النزاعات والمعارك ، وحوادث غسل العار ، والحرائق الهائلة لخزانات الوقود ، التي التهمت اعداد كبيرة من الأكواخ والصرائف ، مناسبات الافراح الاعراس والاحداث السياسية وسواها من مشاهد حية ، بمسرودات قالت الكثير عن حياة اهالي البلدة البائسة ، دونها عبدالله صخي بلمسات حانية ومشاهد انسانية مؤثرة لاحداث عاشها وشاهدها بنفسه، بعد ان وجد اهالي (الشاكرية) ان مكانهم الجديد لا يقل مرارة وبؤسا ، او يختلف عن واقع الظلم الذي عانوه في قراهم الجنوبية !.. وبرغم ان الكاتب اتخذ من عائلة (سلمان اليونس وزوجته مكية) وحلمهما في ان يكون لهما ولد ينجو من الموت الذي خطف اولادهم الثلاثة من قبل ، كوحدة سردية فإنه يحيلنا من خلالها الى بؤر سردية اخرى لحيوات كثيرة وعوائل من سكان البلدة ، معتمدا على ذاكرة مضيئة معتقة تختزن الصور والمشاهد والاحداث بحيوية فائقة وترسمها بسرديات متقنة ، واللافت للانتباه ان زخم احداث الرواية وتراكمها يقتضي ربما من كاتب آخر تدوين مئات من الصفحات ، الا ان براعة المؤلف واتقانه لفن الروي والتكثيف المحمل بالدلالات والاحياءات ، جعلته يقدم نصه الروائي بـ(160) صفحة ، قال فيها الكثير راصدا الحيوات الشعبية وما يعترضها من مرارات العيش . ويمكن القول ان رواية (خلف السدة) تبدأ بحلم وتنتهي بحلم ، حلم سلمان اليونس وزوجته بأنجاب ولد ، حلم الصبي علي بالعثور على بدرية ، حلم عبد الحسين بحليمة ، حلم النازحين بامتلاك بيوت ، واتساع مخيلاتهم البريئة لتشييد مدينة لهم، احلامهم بوعود الزعيم الذي اعلنوا تأييدهم له ، املا في ان يزيح عن كواهلهم تراكمات الحرمان والعوز ، وبالرغم ان عبدالله صخى لم يسم الزعيم والثورة تجنبا من السقوط في المباشرة والدخول في معمعات السياسة ، الا ان المنطق السردي يشير الى هذا الحدث (اذ انطلق الناس فرادى ومجاميع نحو شوارع بغداد مرددين الشعارات التي بدأت تبثها الاذاعة ، وهناك التحموا بجموع غفيرة قدمت من مناطق مختلفة) في اشارة واضحة لاحداث ثورة تموز 1958 ، وفي خضم كل ما جرى من احداث ، ظلت نفوسهم طافحة بالآمال والرغبات في وضع نهاية لمعاناتهم ، وتحسين اوضاعهم المعيشية ، الا انهم اي ابناء (الشاكرية) لم يجدوا من الاعمال ما يسد رمق العيش ، سوى الانخراط في الاعمال الخدمية البائسة ، أو الاعمال المضنية في معامل الطابوق ، بينما ظلت مدينتهم على حالها يملؤها المرض والفقر المدقع والجهل ، كما لو ان حياتهم السابقة في الجنوب تعاد بكل تمثلاتها المأساوية في بلدتهم الجديدة وسط العاصمة ، ولأن الكاتب يدرك جدل الحياة الشعبية واجهاض احلام اهل الصرائف بالحياة الهانئة ، برع في تصوير العذاب الانساني لهذه الشرائح الاجتماعية والحيوات المحطمة ، من خلال تعميق ايقاع السرد ورسم المشاهد المكتنزة بالمحمولات والرموز والدلالات ، للحد الذي باتت فيه كل كلمة ترشح احزان اهالي (خلف السدة) ، مثلما كشفت لنا صفحات اخرى (عوالم اليوتوبيا والخيال والطفولة ، وحياة المجتمع الريفي بكل اساطيره وعاداته) الامر الذي منح الرواية نكهة وطعمآ خاصآ وفهمآ معمقا لحيواتها واحداثها ..