(كاظم حسوني) قاص متفرد بصوته وموضوعته، بسرده، بعبارته المختزلة والقصيرة،، ان جملته القصصية مكثفة وانيقة، وهو يجعلنا بمواجهة مباشرة مع المعطى للقصة (لما ازيحت قطعاتهم، عقب هجومنا المقابل، شرعنا ننتزع جثث رفاقنا المطمورة في الجليد، عثرنا على الاحياء داخل الخنادق اخرجنا اسلحة ومدافئ حديدية وخوذا وحقائب).
وهكذا عبر الدفق السردي السريع من الجمل القصيرة استطاع القاص ان يختزل احداثا متعاقبة وطويلة بحساب الزمن الواقعي فالفن القصصي على وجه الخصوص هو الاسلوب النثري القادر على تحمل هذه المهمة الابداعية فميزة القصة القصيرة عن الرواية هو ميلها نحو الاقتصاد السردي ما يعني بلوغ او ملامسة الثيمة عبر وسيلة مقتدرة ومكثفة.
مجموعة (ظمأ قديم) الصادرة عن دائرة الشؤون الثقافية تحتوي سبعاً من القصص القصيرة وتكاد تكون كتيبا متكونا من سبعين صفحة وواحدة فقط وعلى العموم وفي الابداع تخصيصا يتفوق النوع على الكم فرب قصة واحدة مكتملة البناء تتجاوز العشرات من القصص المترهلة ذات القيمة الفنية الهابطة فما يشدنا الى الفن القصصي هو مستوى الدلالة والرمز والموضوعة الاثيرة فضلا عن حجم الولع والاندهاش المطلوبين لدى القارئ.
مجموعة (ظمأ قديم) ينطبق عليها التوصيف الاخير كما سنرى فهذه المجموعة تتضمن حيوات مفارقة عما يطرح في الساحة القصصية فميزتها انها حيوات تقف في منطقة ما بين الواقعية وما فوق الواقعية اذا صح المفهوم وهذا الاسلوب يظهر في الكثير من التيارات في الادب العالمي فهو ليس بالجديد تماما ولكنه ينطوي على اشكالية لا تنفصل عن هذا النوع من الكتابة وهذا الاجراء يتم على مستوى عال من الصعوبة اذ على الكاتب ان يكون بارعا في اقناعنا في التحولات التي تجري على الشخوص او تطورات الحدث القصصي والتي تنطوي غالبا على شيء من الفنطازيا او اللاواقعية..
فشخصية (ليلى) في قصة (طقوس قيامة ليلى المغنية) يشملها تحول او اختراق ميتافيزيقي ـ اذا صح التعبير ـ فهي المحبوبة الميتة منذ حين من الزمان تعود الى الحياة ما ان يبدأ مهول الشاب مديد القامةلنبش القبر (قبيل حلول الفجر، لما هدأ صخب الموتى، كانت المقبرة مضاءة بنور بدر مشع، وهو في غرفته خطرت في رأسه فكرة مخيفة، اذ تراءى له انه يدنو من القبر).
(فشرعت انامله تعمل بحزم قرب الرأس يفك بحذر عقدة الكفن).
)هنيهات ودب في سمعه صوت تنفس ضعيف فاقترب واجف القلب واخذ يمعن نظره في زرقة الضوء حتى لمح ارتعاش الحيا في المحيا النائم(
الحقيقة ان للكاتب ان يحيي الموتى ويبعث الروح فيها وان يكتب فيما هو خارق وغير طبيعي لكن المهم ان يقنع القارئ بما يبتكر ويصنع ولكن وفي الاطار العام وتحصيل الحاصل ينبغي ان يوظف كل المضامين لتعميق وتاشير دلالة ما ولتصب في معنى ما وليسمه ما يشاء لكن قدرة الكاتب ومعالجاته الفنية هي في النهاية المقرر على مكنة هذه الاجراءات في ايصال ما يريد ايصاله.
وهذه الآلية الفنية تذكرنا بالاسلوب القصصي عند ماركيز خصوصا في روايته (مائة عام من العزلة)التي عمد فيها ماركيز لاحدى شخصياته النسوية لان تطير في الفضاء ـ ولكن لم نستشعر ان ما مارسه الكاتب كان امرا خارقا للطبيعة بل تلقينا هذا الاجراء بشغف وبمزيد من الاندهاش والادهى انه لم يضطرنا لاحتساب كتابته ضمن الكتابات فوق الطبيعة.
اعتقد ان (كاظم حسوني) في القصة بالذات اراد ان يعمق احساسا عميقا وصامتا وتحت السطح يتميز بكونه اتصالا عشقيا بين الموتى والاحياء فهذا الشعوريتصف بالديمومة ولا يحطمه فاصل الموت ومن ثم فهو ينهل من محيط المخيلة اللا متناهي ومن مخيلة جمعية تصور ـ الكائن الميت ـ بثنائية الجسد الثاوي والروح الهائمة والحائمة حول الاحياء مما يبقي على عنصر التواصل.
)وما ان يدنو من القبر حتى يتوقف مرتبكا ينظر، يتفرس في العتمة قبل ان يجذب من جيب سرواله زجاجة عطر يفتحها.. ويريق قطرات منها فوق القبر) الحقيقة ان هذه الممارسة المعهودة لدى الكثيرين في مخاطبة الاموات وفي معاملة قبورهم وكانهم احياء فيها تندرج ضمن العرف المتخيل عبر مجموعة من الامتثالات والتصورات ربما هي غير واقعية ولكنها تشغل حيزا فاعلا من المخيلة وربما هي نوع من الملاذ والوهم الضروري للاحياء.
المهم ان القاص استطاع ان يفلح تماما في ترميم كيان قصصي رفيع في القصة المتميزة والنابضة بالحياة والمخيلة عبر اجواء متلونة فهي تارة شاحبة واخرى يخترقها ضياء الفجر وهكذا يزجنا في مناخات ليس في هذه القصة فقط انما على مدى مجموعته عبر معابر رحبة الولع السردي واضح جدا وبتمكن قصصي فبعض قصصه يكاد ينعدم فيها الحوار تماما ولكنه ـاي الحوار ـ يبقى يجري داخل نسيج القصة فتجليات القصة الدرامية تتحرك بنمو السرد المتلاحق ففي قصة (في انتظار المطر) نزداد شغفا في غواية الاستغراق للارتماء في احضان الطبيعة في محاولة للخلاص من التلوث الذي بدأ يكتنف الحياة وهو يتوجه الى اولئك (الذين نغفل عن رؤيتهم دائما، اولئك المكبلين بالعتمة المسكونة بالعجز، المصابين بالجدب، واليأس والهزال والضمور.. هم وحدهم ابناء المطر) ان المطر في هذه القصة هو المطهر وهو الخلاص والمكان ـ كما يقول القاص ـ الآمن (المطر يحملني لان اخط ملامحهم، وصورهم بتأن، كائناتي المائية هذه، اسوقها من الغرف والبيوت برفقة حميمية الى العراء) الماء هنا هو عنصر التطهر في الطبيعة وهو الذي يخلص البشر من ادران الدنس هذا الذي بدأ يطوف ويداهم الحياة من كل جوانبها السرد في القصة يحمل نيرات الشعر في الكثير من متون القصة.
)وعندما يأمنون وتغمر ارواحهم السكينة، سرعان ما يتجردون من اعبائهم الثقيلة ويأنسون به، حينئذ، ينسجون تجاربهم، ليتركوا حكاياتهم وقصصهم وآثارهم البهية) هنا يمكن ان نرصد بسهولة اللغة السردية الشفافية انها لغة عالية الايقاع تحمل تطلع جموع وليست نبرة تكتفي بالصوت الذاتي وان كتبت بضمير ـالانا ـ
القاص (كاظم حسوني) كتب قصصا عن الحرب ولكني اجزم بأن كتاباته التي تصدت لهذه الموضوعة انطوت على قدر كبير من الادانة والرفض لكوارثها واهوالها ومهازلها لقد كتب عن الحرب وفي غمرتها وبلغة مقتطعة من جذوتها وهو بارع في تصوير هذه المآساة البشرية وله امتياز في تصوير الالم ـ الفردي المنبعث منها والذي ياخذ معناه الانساني الشامل.
)لا اريد ان يلقى القبض عليّ او يجرفني الموج الآسن الى مواضعهم مع باقي الجثث الطافية افكر بالاصحاب الذين استحالوا الى نثار محترق ودخان: ثمة رصاص يهوي من ظلام فاحم بصعوبة ارفع رأسي المنقوع بالوحل اترصد منابع النار واعب في جوفي هواء عفنا ثم اغوص من جديد في وحل الحفرة ياكلني حنقي على خوار جسدي).
من البديهي ان موضوعة الحرب هي من الموضوعات المهمة والبارزة في الادب العالمي وهناك من الآثار الادبية الرفيعة في هذا المجال ـ فالحرب تضع المرء امام مصيره وتعني العيش عند الحافة من الحياة وهذا احساس عارم على المستوى الوجودي لانه يعيد اكتشاف الحياة فالخطر او الحدية في العيش قادر على ان يوقظ الكثير من الاحاسيس الهامدة ـ كما يزعم نيتشه ـ خصوصا في لحظات المواجهة المباشرة للموت ومن خلال قصص (كاظم حسوني) نلمس هذا النبض محتدما وحادا.
(هل نجوت؟ لقد تخلى عني الموت،، بنشوة غريبة ازحت الجثة التي فوقي رفعت رأسي من وحل الحفرة رحت اتفرس في ظلام ممطر غامض)
في قصة (نداء اخير) يبلغ القاص (كاظم حسوني) ويجسد ذروة الخوف والرعب البشري ويلازم هذا البلوغ درجة عالية من التعبير القصصي حيث تبدأ القصة وتنتهي بكثافة سردية مجلجلة تنقطع خلالها الانفاس حيث نواجه الموت مباشرة ويتكدس الرعب من خلال جمل وسرد سريع وبجمل متلاحقة وممتلئة.
واعتقد ان القارئ العادي يستطيع ان يشارك الكاتب مباشرة صدق الرؤية ويستطيع بسهولة ان يفتح المعابر على سعتها مجمل القصة وبنائها، الموت، الظلام، الطين، الليل، الصمت، الوحشة، الرائحة النتنة لجثث الموتى، والطين، الحرائق، الدخان، الجحيم،…
تبدأ القصة هكذا،
(انا لن اموت خضت، في قلب الجحيم، قاتلت بشراسة في دوامات النار، قيدوني واطلقوا عليّ الرصاص خرجت من دوائر الخريق والقصف وشظايا الانفلاقات وكنت انجو كل مرة سأعيش طويلا بعد هذه المعارك الرهيبة).
الجملة القصصية هنا توازي التجربة ورعبها في ان تحملها بشكل عضوي ولكن القاص يسعى في ان يجعل لغته تلاحق نسيج التجربة الحي.
في قصة (الثلج الكبير) تمتلك ذات النبرة النابذة للحرب ولكن القاص هنا يستخدم الاسطورة ـ الحكاية من داخل نسيج القصة فلا يجعلنا نستشعر ان الاسطورة او متوناً منها مقحمة عليها من الخارج فأسطورة (دم يوسف والذئب) المعروفة يوظفها القاص هنا وهناك في تلاقح عضوي متماسك فالقاص يثيرها عبر جمل موحية مستهدفا غرضا معاصرا وانيا عبر توظيف الاسطورة، وهنا تكون الحرب هي المجال الذي تخوض القصة فيه ايضا.
(الدم هو الذي استدرج فضول زائرين اشد فتكا، الذئاب التي تركت اوجارها وكانت تظهر أمامنا بغتة وعيونها تبرّق في العتمة (يا يوسف! اني ليحزنني فراقه واخاف فراقك عني) (عم يعقوب، يا ابي، الاخوة جاءوا ورائي ليمسكوا بي، ويلقوني في غيابة الجب).
ومن الجدير بالملاحظة ان بعض النقاد العرب تلمسوا النقص والضعف في استخدام الاسطورة في بعض الكتابات في مختلف الاجناس الابداعية وهذا ناجم عن اقحامها ـ اي الاسطورة ـ من الخارج للنصوص ما يغيب هذا الامر التلاحم العضوي بينهما، وهنا اود ان اشير الى قيمة الاسطورة الرمزية والتي تمكّن المبدع من تاكيد التجربة الابداعية حيث يتم تجاوز البعد التاريخي لتكريس دلالة معينة.
اخيرا اود الاشارة الى قوة النثر والسرد وتدفقهما بشكل متين كما ان الجملة محسوبة البناء فلا زيادة ولا نقصان فهي منسقة ضمن بناء مدهش.