الثبات على الحق أحق، وأولى من العثور عليه، فأقصص القصص لعلهم يتفكرون
كأنني أستمع إلى الصدر الشهيد.. استمعت إلى هذه الخطبة التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد مهدي الخالصي (دام ظله) في صلاة الجمعة التي أقيمت في باحة المدرسة الخالصية المباركة بتاريخ 21 جمادي الأولى 1436هـ الموافق لـ 13 آذار 2015م، وقد طارت بي الذكريات حتى خُيّل لي أنني أستمع إلى شهيد الجُمعة السيد محمد الصدر (قدس سره)، فبنفس نبرة الحماس، والإيمان والثبات على أحقيّة الجُمعة ووجوب الانتصار لها، كان يتحدث سماحته، اذ انطلق في خطابه قائلاً:
ما زلت أوصيكم ونفسي بتقوى الله ولزوم أمره، والانتهاء عن نهيه، والثبات على دينه، والتفقه في شريعة سيد المرسلين، لتعرفوا الحق من الباطل، والسُنّة من البدعة ، فإن العلم أول العمل. فمن يعمل بلا علم يتخبّط، ومن يمتلك علماً ولا يعمل به يكون علمه حجة عليه. وقد سنَّ الله صلاة الجمعة بخطبتيها مدرسة اسبوعية، وأمر بالسعي إليها، وترك ما يعارضها من الاعمال، لإشاعة العلم والخير في الأمّة؛ فقال عزَّ إسمه: (ذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة 9)، ولعظمة هذه السُنّة ومكانتها في تقويم الأمة، وتقويض وسائس الأعداء وحبائل الشيطان تعرضت هذه الشعيرة، للشبهات بغية تعطيلها، وحرمان الأمة من بركاتها، حتى إذا جاء الحق وظهر امر الله و هم كارهون، وأقبل الناس على احيائها، بجهود العلماء العاملين الذين نافحوا عنها بعلمهم وعملهم، نرى بعض الذين كانوا من خصوم اقامتها بالأمس، يحرصون على إقامتها اليوم هداهم الله وثبتهم عليها، ولكن منهم من يسيئون استخدامها اذا اتخذوها ذريعة لنشر الباطل أو إثارة الفتن الطائفية والخصومات السياسية.
لأجل هذا ايها المؤمنون ينبغي ان تكونوا على وعي من مهمتكم في الاستجابة لنداء الله والسعي إلى حضور الجمعة سُنة رسول الله (ص)، وانها مهمة مقدسة، إذا وعينا حقيقتها. فأنتم تحضرونها قربة لله تعالى وللعلم والعمل، ولتبلغوا ما تسمعون إلى غيركم، لتكونوا بذلك اديتم واجب إحياء السنن وإماتة البدع
. سبق لنا في خطب سابقة ان بيّنا ان الثبات على الحق وتحمل مسؤولياته اهم من مجرد العثور على الحق، وعلمتم لماذا ندد القرآن بالمنافقين وقال انهم )الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(145 النساء) (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (3 المنافقون) أي انهم وجدوا الحق ثم كفروا به ولم يثبتوا عليه، اليوم في هذه الخطبة نذكّر بدرس آخر من القرآن، ونتلو عليكم منه نبأ نموذج ممن ادرك الحق ثم انسلخ منه يقول الله سبحانه في سورة الأعراف ):وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف 174 ـ 179. في قصة رجل كان من الأحبار الصالحين من قوم موسى (ع)، يدعى بلعم باعورا، كان مستجاب الدعاء لما آتاه الله من العلم والبينات، لكنه لم يثبت عليها فأنسلخ منها، وأتبع هواه فكان من امره ما جاء في الآيات المذكورة من عاقبة السوء، وأورد الله قصته (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ونحن نوردها و نذكر بها، للتفكر والتدبر، ليزداد اهل الحق ثباتاً عليه، ولكي لا ينخدع الناس بظاهر الأمور فإن الأمور بعواقبها، ولعل من انحرف عن الحق أن يعود إليه؛ وهذا هو الهدف لسرد هذه الأمثال في القرآن الكريم كما قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الحق. وقد انهى سبحانه قصة بلعم باعورا بقوله: (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ*مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (الأعراف 177-179)، فاعتبروا ولا تكونوا من الغافلين فمن وجد الحق فليثبت عليه، ومن لم يجده فليسع للوصول إليه. وإلا فالعاقبة غاية في الخطورة، فالنقد والعياذ بالله ليس موجهاً للعلماء العاملين المجاهدين المبلغين لرسالات الله، بل التقريع للذين اخلدوا إلى الأرض وأتبعوا اهواءهم وساروا في خدمة سلاطين الجور طمعاً في ما يحصلونه منهم من عرض الدنيا سواءً من الحكام الظالمين او الأجانب المحتلين.
ويؤسفنا جداً ان نرى بعضاً ممن كنا نرجو ان يكونوا من الصالحين يسقطون كما سقط بلعم باعورا لما انسلخ من آيات الله، فالأزهر الشريف والحوزات العلمية في العراق وغيره كانت من قلاع الاسلام، تقف بجانب الحق وتدافع عن مصالح الأمّة، على مدى تاريخها، وقد قاومت محاولات الاخضاع والاختراق من خصومها، وقد راعنا ان نرى أخيراً بعض رموز هذه القلاع الإسلامية الشامخة تتوحل في خندق الاحتلال المعتدي، أو في خندق جلاد مصر وفرعونها الذليل المعادي لشعب مصر القاتل لخيرة ابنائه خدمة للصهيونية والأنظمة الاستكبارية الداعمة لها، والشعور بالأسى امض ان يرى الانسان هذا الارتكاس والتوحل من شخص كشيخ الأزهر الحالي الذي كنا نكن له الود والاحترام لما عهدناه من طيبة وتقوى، فإذا به ينحاز لباطل الانقلاب، بإندفاع لا يليق بعالم في مركزه إلى درجة التحول إلى طبل دعائي لخصوم الإسلام بالإنسلاخ من آيات الوحدة الإسلامية والأمة المحمدية إلى التهريج بالدعوات الطائفية والتفرقة المذهبية البغيضة فراح يتظاهر بالحرص الكاذب على أهل (السنة) في العراق مثلاً، في حين يرى ان الإسلام والقيم الشريفة والانفس البريئة تغتال في مصر، ويرى ويسمع ان كرامة الشعب المصري يُضحّى بها تزلفاً لعبيد الصهاينة ولا يُبدي أدنى غيرة للإسلام ولا لمصر ولشعبه، ولا حتى لأبنائه وبناته من طلاب وطالبات الأزهر الذين يُقمعون داخل اروقة الأزهر كأن هؤلاء جميعاً لا يستحقون أدنى رعاية وتعاطف وكأنهم ليسوا جميعاً من أهل (السنة والجماعة) التي يدعي التحرق لهم والدفاع عنهم بل يدخر كل حرصه وإمامته ورجولته للدفاع عن أهل (السُنّة والجماعة)، زوراً وبهتاناً متناغماً مع المنهج الاستبدادي الصهيوني، لإثارة الفتنة الطائفية. استكباراً في الأرض ومكر السيء. مع هذا كله مازلنا نرجو ان لا يحيق به المكر السيء، وأن يؤوب الشيخ الطيب إلى رشده، وأن يتعظ بما آلت إليه عاقبة بلعم باعورا وأمثاله. لعل الله ان يقيل عثرته، إن لم يكن كرامة له فكرامة للإسلام ولشعب مصر وللأزهر الشريف الذي تحول مع الأسف الشديد في عهده خلافاً لمنهجه وتاريخه، تحول إلى قلعة لقلع الاسلام وحصناً للدفاع عن الاستبداد والظلم والجور على شعب مصر المسلم (السُنيّ)الذي ينتصر له الشيخ ايماناً وأمانةً واحتساباً بل اندفع يحرّض عليه ويسمُه بالتطرف والإرهاب وينتصر لأعدائه ولأسيادهم كهنة اغلال (كامب ديفيد) السفاكين.
وقد ركزّ سماحته (دام ظله) في هذه الخطبة على هذا الجانب من الموضوع لخطورة الامر، وتذكرة للجميع بأن الانسلاخ عن آيات الله يمكن ان يتكرر مع الذين لا يثبتون على الحق، مع الذين يخلدون إلى الأرض ويتبعون أهواءهم من الغاوين، ولأجل هذا انزل الله من بطنان العرش نبأ بلعم باعورا، في كتابه المجيد ليُتلى على مدى الدهور، وأمر خاتم انبيائه وسيد رسله ان يتلو نبأه على الناس ليعتبروا (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لعلهم يرجعون). (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (فاؤلئك هم الخاسرون).
وقد تطرق سماحته في الخطبة إلى موضوعات أخرى مماثلة، اقتصرنا على هذا الجانب منها في تقريرنا لأهميتها لا سيما في ازماننا ازمان الأزمات والتزلزل، تثبيتاً لأهل الحق، ودعوة لغيرهم إليه، حتى لا يهلك من هذه الأمة أحد. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَوَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (27-29 ابراهيم). (وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيم) (101 آل عمران) فكونوا منهم يرحمكم الله.