يا شاعري.
هذا الزمن الذي أيقظته أنا. وأيقظته أنت يريد أن يصوغ لنا رداءً جديداً يدعى بـ “1958”. إنه يعلم لون هذا الثوب. ونحن نعلم إنه يجب أن يكون وديعاً – كقلبينا – كريماً – كأيدينا – هامساً – كشفاهنا.
أجل نحن نريده أن يكون “الخميل” ندي النغم. كالشمعات الأربع راعشة الضياء. نريده هكذا. وفي هذه الليلة يجيش في عينيك شوق أعرفه. أعرفه لأنني أحس اختلاجة في عيني. وفي يدي. وفي هذه الليلة تعربد على نافذتي الربيعية ألف لهفة تهصر القوة في تعابيرها من شعوري.
هذا الشعور الولوع كالطفل. الطيب كالخير وعلى نافذتك شذى “شهرزاد”، وآهة “حمّيد”. أكاد أقبل هذا الشذى وأضم هذه الآهة. يا لربيعنا. إنه يخلق في الشتاء. يا لدفئنا إنه يتدفق من تلال الثلوج. ومن أغنيات الجليد الهامسة اللون كأن هذا الدرب السخيّ الذي أبصره من نافذتي الكبيرة يتنهد. لا من العذاب ولكن من الفرحة. لأن طيفاً –نيلي الرداء – أسعده بقدميه. وهو يمشي مشيته – الخاصة –
لأتحدث إليك. وما ِأكثر ما أود أن أسوقه إليك. وأنا أجلس في فراشي المتواضع الوردي الغطاء. في سمعي ضحكات زميلاتي. جذلة طيبة. وأكاد أكون أكثرهن جذلاً وطيبة. وراحة ولكني اضحك الآن في صمت. وأتأوه في صمت. وأكلم كل شيء حولي بصمت. ولكني معك هناك. وعلى لحن شهرزاد أتكلم. ولست أدري أتسمعني
***
1/1/1958
شاعري، أم أن لحن “حمّيد” هو الذي يشغلك الآن؟
يا شاعري. لا تلمني إن أنا عدمت الثقة فيك أحياناً. لا تغضب لذلك. لا تقلق لذلك. لأنه من حقي أن أعرف كل شيء عن الإنسان الذي يريد أن يعرف عني كل شيء. ويريد أن يتخلل في كل جزء من حياتي فأنا حفظت هذا القلب. “لربيع يستيقظ في الشتاء” وحفظته أعواماً طويلة كان فيها الذين يرغبون في ولوجه كثيرين. من كل شكل ولون. من المراهق حتى الشيخ. ولكنه كان غافياً هذا القلب. كان يسمع أحياناً بعض الطرقات. ولكنه مع هذا كان في غيبوبة طويلة الأمد. والآن وبعد الاغفاء الطويل نفض عنه ثوبه الندي. وهو يعرف أنه لن ينام بعد. أفليس من حقه أن يعرف أنه لن ينام لأن هناك من يسهر إلى جانبه؟
الآن ستطفأ أضواء الغرفة فالساعة الثانية عشرة. وحلمي الطفولي – يهدهد مقلتي. وهناك تحت الخميلة وجه. حلو. عذب. كينابيع الجبال. يستقبل بابتسامته الحبيبة وجهاً أبيضَ. تقبله دغدغات شعرها الطويل. كانت خميلة فيها أسطورة. والآن دبت الحياة في الأسطورة. فليكن لنا شيء واحد نرمقه في هذه الأسطورة. هو أن نحافظ على حياتها. وعلى الدم النبيل الذي يسري في وريقاتها.
لست أدري ما أقول. فقد أضيئت الغرفة من جديد. وبدت الآهة تفرش لونها على شفتي. وهناك وسادتيَ المزهرة.، ترنو إليّ بفرحة ملؤها الحنين. فأسعدت صباحاً.
يا شاعري.
***
3/1/1958
يا شاعري
وتمتمت شفاهك “لم تكونين عفريتة ولا تكونين آلهة” كلمات تسعد كل أذن تسمعها. ولكن أذني هذه البليدة تأبى أن تسر بذلك كل السرور. فأنا. يا شاعري أريدك أن تحبني فقط. كما تحب خفقة الربيع وتعشقني كما تعشق تلون النجوم. فالربيع يأتي دائماً فيذكرك بي. والنجم يغني في عينيك دائماً. فتذكر عيني. ولكن الاله المعبود تخشاه. يبقى دائماً بعيداً عن أيدينا. عن حواسنا. فلا نراه وأنا أريدك أن تراني. في خطواتك. في تنهداتك. في رعشات يديك. أريدك أن تحسّ بي. أن تحس “بشعوري”. بشفتي وهما تحتضنان ربيعنا – في كل لقاء “مذعور الأخيلة” فالاله خلق للعبادة فقط وللطلب. ولكني أريد أن تتلمسني إلى جانبك أنقل اللهفة من ركن إلى ركن لأحفظه عن العيون. أهمس في كل شارع. مورق الظلال. يمر فيه طيف – نيلي الرداء –
فالحب لون من العبادة لأننا نحب الله. ولكن العبادة شيء مرهق وغالي الثمن. لا أريدك أن تعبدني. فلو عبدتني لأبعدتني عنك دون أن تشعر – وأنا أريد أن أكون معك – ولو عبدتني لخشيتني. وأنا أريدك أن تكون معي. في خشية الضعف في مشاعرنا وخفقاتنا.
الاله. دائماً يعيش في مكان علوي. في منأى عن البشر – وإن كان في وجودهم راسخاً– وأنا لا أريد البعد. لا أريد النأي عن البشر. فأنا أعبد الله. ولكني أحب البشر. أحبهم بجنون. مشاعرهم. مشاحناتهم. شرهم. وخيرهم. وأريد أن تكون منهم. “بصفة خاصة” (والآن وبلا تقصد شعوري تمتم صوتي بأغنية “يا مسافر وحدك وفايتني لعبد الوهاب” وصديقتي – وابنة مدينتي – تستعيد كلمات الأغنية.
إنني أنتظر منك أن تكتب إليّ. بل يجب أن تكتب. وصف غرفتك ونافذتك – الربيعية – و”المسجل” و”حمّيد” – وأريد أن تسجل أغنية يوسف عمر – دشداشة صبغ النيل.
وإنني أفضل أن تعيد إليّ كتاباتي. لا لأنني أخشى عليها. بل لأنني أجد متعة في قراءتها وفي.
***
10/1/1958
يا شاعري
هذا الشوق “الربيعي” إنه يفتق لي. ألف طريقة للقاء. لقاء. هناك وهنا. وفي الليل. وفي لفائف الفجر. في كل مكانٍ. هذا الشوق هو الذي يفتح طرق اللقاء ويهذبها ويظللها وينثر على سواقيها عطر “النرجس”. ولكني أنا. أدثر بعض هذهِ الطرق بالضباب. وأعمل معول عقلي في بعضها فتتهدم. الشوق يبني وأنا أقطع. ولهذا سأمتنع عن المجئ. وسأدع الشوق يُنبت في عيني الندى. وفي عروق هذا الندى ستلمح – نيلي الرداء – يغفو في وداعة. بينما تحنو عليه أهداب. عيني
إنني أحس بأغلالك أكثر مما تحسها أنت. ولكني كذلك أحس بحاجتنا إلى اللقاء سننتظر. وندع للغد “الذي نعشق أن يكون رحيباً”. لشفاهها الباهتة الخرس. بأن تتكلم. لا نريد صمتها. فلآهاتنا صمت. ولضحكاتنا صمت ولرعشات شفاهنا. صمت وغريب أن يقال أنه ليس للصمت صوت.
لن نلتقي فأنا أحمل عبء ساعات قليلة. في حدود هذا المكان ولست بحاجة إلى أن أزيد هذا العبء. لأنني سأتمزق من ثقلها. إنني أهبك “شعوراً ” سخي الينابيع. ولكنني أهبه برهبة وذعر طويل الأمد فلنستجد من الغد أن يكون طيباً ومجيباً كما تحلم كتبنا. وشمعاتنا الأربع.
***
11/1/1958
شاعري، الآن “والساعة السابعة والنصف” رجعت من النادي وفي عيني دموع صامتة.
وددت لو كنتَ الآن. هنا تنظر معي من نافذتي إلى الطريق فترى “ابن خالتي النبيل” وهو يمرّ بخشوع ونبل كريمين. لقد جاء بنبله وطيبته لا ليصرخ في وجهي. ولا ليعاتب عينيّ لأنهما رفضتا عينيه مع إنهما تنضحان بالحبّ والوفاء. أجل لقد رأيته أنت بجانبي حين دخلت النادي. و. وحينذاك سكت لساني عن النطق. سكت دقيقتين كاملتين. لماذا.؟ لماذا؟ أجبني أنت.
إنه أخي الآن. لقد هرب من الكلية عدة أيام وسافر إلى كركوك ليقنع أهله بالتنازل عني والتأكيد عليهم بأن لا يقفوا في طريقي مهما حدث الأمر وقد جاء هنا ليؤكد لي بأنه سيبذل جهده في مساعدتي وتوفير الراحة لي. وحين دخلت صرخ كل شيء في وجودي. بأنك أنت الذي له “شعوري” ولكن الصرخة كانت صامتة. فلم يفهم هو الصمت. وقد ذهب وهو يقول لي “إنك أختي”.
إنني لم أذكر هذه الكلمات لشيء سوى أن أقول لك إن الذي كان جالساً معنا هو أخي. وبأنه شاب مكتمل في كل شيء إلا.. حبي. وهذا “الشعور” أينع وأزهر على درب الأكواخ الصغيرة. وعلى لحن “حميّد”. وفي غرفتك الحيية. شاعري. إنني أبكي الآن لأنني أريد. أن. ولكني أخشى أن أقوله لك. أخشى ألا تحسب الأمر “صراحة” بل تهالكاً وخفة ولكن هذه الصراحة حين أكتبها في قلبي. وفي يدي. تتعلق بعيني تستجديها البوح. فتستجيب العين. فأبكي