ملامح توتر خطير بين محافظات الجنوب ذي قار والمثنى والبصرة على مواقع نفطية جديدة بعدما بدأت شركات نفط عالمية في استثمارها قبل شهور قليلة، وتقع في مناطق حدودية متنازع عليها بين هذه المدن وامتدت إلى العشائر.
انضم علي عباس (34 عاما) وهو عاطل عن العمل، إلى تظاهرة دعت إليها عشيرته (آل عبس) من منطقة الهويشلي في محافظة المثنى للمطالبة بأراضي أجدادهم في المنطقة المتنازع عليها على الحدود مع جارتها محافظة ذي قار بينما يتدفق مئات العمال مع حفاراتهم في مشروع لإنشاء مخازن وقود نفطية تنفذه شركة (CPP) الصينية.
عباس يقول “شاركت في التظاهرة بعد أن شعرت بالغبن والغضب جراء سيطرة عشيرة (آل غزي) من محافظة ذي قار على أرضنا وادعاءهم امتلاكها، علماً أنهم يسعون للاستحواذ على جميع فرص العمل بالمشروع الجديد من خلال التنسيق مع حكومة ذي قار وتركنا نحن نعاني البطالة”.
وتفاقمت الأزمة مع تعرض الشركات النفطية العاملة في تلك المناطق الى تهديدات من قبل العشائر المتصارعة وسط صمت حكومي عما يجري في المدن الجنوبية التي اشتعلت فيها الصراعات العشائرية.
إحدى المناطق التي تشهد توترا متزايدا وتسمى بـ “الرقعة الاستكشافية العاشرة” بين محافظتي ذي قار والمثنى، وتمتد على أكثر من 5000 كيلو متر مربع ، ويعمل على تطويرها تحالف شركتي “لوك اويل” الروسية و”انبكس” اليابانية بعد حصولهما على حق التنقيب وإجراء عمليات التطوير والإنتاج وفقا لترخيص من وزارة النفط الاتحادية عام 2012.
عشائر “آل غزي” في جانب ذي قار التي استملكت مساحات كبيرة تمتد إلى الغرب من المحافظة وتتداخل مع حدود محافظة المثنى متمسكة بحقها على حد قول الفلاح منشد جابر(65 عاما)، مبررا موقفهم بالقول أنهم عرضوا المساعدة مع كل الجهات الحكومية لإنشاء المشاريع النفطية، لكنهم واجهوا ضغوطاً من أطراف أخرى.
ويقول منشد جابر ان “محافظة المثنى وعشائرها مارست ضغوطا وتدخلات في عمل الشركات النفطية وقاموا باحتكار جميع فرص العمل فيها وإقصاء العاملين من أبناء العشائر من محافظة ذي قار وهو ما ترفضه عشائر المنطقة”.
ولم يكن التوتر العشائري والاتهامات المتبادلة بين الحكومات المحلية ملحوظا خلال الأعوام الماضية، لكنه ظهر بقوة خلال العام الحالي بعد اكتشاف آبار نفطية ضخمة في هذه المنطقة وتدفق شركات النفط العالمية للعمل فيها، بينما تسعى العشائر للحصول على وظائف لأبنائها العاطلين عن العمل.
رئيس اللجنة القانونية في مجلس محافظة المثنى احمد المرزوك انتقد سياسة حكومة محافظة ذي قار في التعامل مع هذه القضية وقال إن “حكومة ذي قار لم تتعاون معنا لحل الإشكالات العالقة بين المحافظتين على الحدود، على الرغم من استعدادنا للتعاون في حل المشكلة الحدودية وفقاً للقوانين النافذة ودعوناهم لتشكيل لجان مشتركة بين المحافظتين بهدف التعجيل في ترسيم الحدود ولمنع توسع أي خلافات عشائرية مستقبلا”.
ولكن محافظة ذي قار أقدمت على ترسيم الحدود دون مشاركة ممثلي محافظة المثنى وهنا بدأت المشكلة، كما يقول المرزوك.
في المقابل يبرر يحيى المشرفاوي رئيس لجنة النفط والغاز في مجلس ذي قار ترسيم الحدود من جانب واحد، بسبب تنصل المسؤولين في المثنى من حضور الاجتماعات المشتركة ضمن اللجان التي تم تشكيلها مؤخرا.
المشرفاوي يقول “بعد تصاعد التوترات العشائرية والاتهامات والتظاهرات في المدينتين، وخشية من تطورها توجهنا الى ترسيم الحدود وفق خرائط الهيئة العامة للأراضي في وزارة الزراعة التي تكفل أحقية محافظة ذي قار في جميع الأراضي التي تشهد مشاريع نفطية وجزءا مهما من الرقعة الاستكشافية العاشرة”.
الادارة المحلية في المثنى لجأت الى الحكومة الاتحادية لإنهاء هذا النزاع قبل تطوره، ويطالب نائب رئيس مجلس المحافظة حارث لهمود بتشكيل لجنة محايدة من بغداد تتولى ترسيم الحدود، وأكد أن “إجراءات حكومة ذي قار الأخيرة بترسيم الحدود لن نسكت عليها، وسنعمل على مفاتحة الأمانة العامة لمجلس الوزراء للتدخل بما يضمن حقوق أبناء المحافظة”.
أصل هذه المشكلة يعود الى حكم نظام صدام حسين الذي أعاد رسم حدود غالبية المدن العراقية دون مراعاة للوضع الديموغرافي والعشائري في هذه المدن، وبعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 طالبت هذه المدن بإعادة الأوضاع كما كانت في السابق ، ولكن مدناً اخرى رفضت ذلك لأنها مستفيدة من الوضع الحالي.
وحاول البرلمان قبل ثلاث سنوات اعادة ترسيم الحدود بين المحافظات والغاء القرارات الصادرة من قبل نظام صدام حسين في القضايا الحدودية، ولكنه فشل في تحقيق هدفه لان الخلافات بين الاحزاب والكتل آنذاك كانت عميقة وغير قادرة على مناقشة قضية حساسة.
ويقول علي العتابي الباحث في علوم الجغرافيا إن “نظام صدام حسين احدث تغييرا ديموغرافيا كبيرا في خارطة العراق ومنها المحافظات الجنوبية وابرز هذه التغييرات التي أجريت على الحدود المشتركة بين ذي قار والمثنى”.
ويضيف “كان من المقرر مناقشة المشكلة في البرلمان العراقي ضمن مسودة قانون جديد ضمن المادة 140 من الدستور إلا أن المشروع فشل، وتفاقمت الأزمة خلال الشهور الماضية بسبب الصراع على النفط، بينما تدخلت العشائر في هذه الازمة للحصول على منافع لصالحها”.
أزمة مشابهة تلوح في الأفق أيضاً على الحدود المشتركة بين محافظتي ذي قار والبصرة بسبب الصراع على مناطق الأهوار التي اختارتها منظمة اليونسكو الشهر الماضي لتكون ضمن قائمة التراث الانساني، وبدأ المسؤولون المحليون في المدنيتين التنازع بشأن عائدية مناطق مهمة من الأهوار بعد ان شهدت هذه المنطقة تدفق عشائر جديدة إليها.
واندلع نزاع بين هذه العشائر على منطقة الخنزيري (30 كلم) جنوب قضاء الجبايش التابع لمحافظة ذي قار، وتبلغ مساحة هذه المنطقة المتنازعة (7000 دونم) ويقطنها قرابة ألف نسمة قدموا من محافظات ميسان والبصرة وذي قار أملا بوضع معيشي أفضل.
الأهوار التي تشتهر بتربية الجاموس وصيد السمك جعلها مقصدا للنازحين والباحثين عن فرص عمل من أبناء العشائر.
ويقول المواطن فيصل السلمان (55 عاما) “جئت مع عائلتي وأقربائي من مدينتي البصرة الى منطقة الخنزيري في صلاح الدين بعد عام 2003 بسبب البطالة، ونسعى للعيش في سلام ودون صراعات مع اهالي المنطقة الأصليين”.
ولكن كاظم عيال (60 عاما) من عشائر (بني أسد) في ذي قار يصرّ على أن منطقة الخنزيري تعود ملكيتها التاريخية الى عشيرته التي تم تهجيرها من المنطقة بسبب تجفيف نظام صدام حسين مناطق الاهوار حتى أصبحت جافة غير صالحة للعيش، ويقول “نرفض إنشاء مشروع حكومي في هذه المنطقة الزراعية، لأننا نريد إعادة الزراعة فيها كما كانت في السابق”.
ولكن مجلس محافظة البصرة يؤكد أن منطقة الخنزيري تعود إلى بلدة الهوير التابعة إلى البصرة، ويقول نشأت المنصوري رئيس لجنة التخطيط والمتابعة في مجلس البصرة لـ “نقاش” “ان “أصل المشكلة في ترسيم الحدود المشتركة يرجع إلى خلاف حول جداول نهرية تمر في المنطقة”.
ويضيف ان “البصرة وفرت الخدمات اللازمة للمنطقة من موازنتها المالية كما شكلت لجنة مشتركة من دوائر الماء وإنعاش الاهوار وعقارات الدولة لإجراء مفاوضات مع ذي قار لوضع الحلول المشتركة في هذا المنطقة وعدم التجاوز عليها”.
ولكن قائممقام قضاء الجبايش في ذي قار بديع لبنان الخيون رفض عمل اللجنة المختصة بترسيم الحدود والتي شكلتها حكومة البصرة، وقال ان “هذه اللجنة غير قانونية، ويقوم المسؤولون في البصرة بترسيم الحدود من جديد على ضوء الصراعات العشائرية، ولكننا نمتلك جميع الخرائط والوثائق الرسمية التي تثبت الحدود الأصلية الخاصة بذي قار”.
الصراعات الحدودية بين المحافظات الجنوبية باتت ازمة جديدة تضاف الى ازمات البلاد خصوصا وان العشائر المسلحة هي من تقود هذا الصراع، بينما تنشغل الحكومة الاتحادية بالحرب ضد “داعش” واعمار المدن المدمرة جراء العمليات العسكرية شمال وغرب البلاد، وغير مهتمة بما يجري في المدن الجنوبية، والصراع الحدودي مرشح للتصاعد مع اقتراب انتخابات مجالس المحافظات المزمع إجراؤها العام المقبل.