طائرة عراقية خاصة تحمل طنا من السمك وعمال (سكف السمك) الى باريس
بادر العراق سنة 1974 إلى دعوة رئيس الوزراء الفرنسي في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان ، وهو جاك شيراك لزيارة العراق، وأعد له برنامجاً حافلاً وفاخراً مع الكثير من الترف والإنفاق والحفاوة المبالغ بها، تكريماً لهذا الضيف الاستثنائي الذي حل على العراق في ذلك الوقت بعد عام من حرب أكتوبر 1973، واندلاع أزمة الطاقة، واستخدام سلاح النفط وتأميمه في العراق سنة 1972، أي قبل عام من تلك الحرب العربية الإسرائيلية التي ادت إلى ارتفاع أسعار الذهب الأسود إلى أكثر من خمسة أضعاف سعره العادي في السوق النفطية العالمية، وكلنا يعرف ما هي أهمية هذه الطاقة لاقتصاديات وصناعات ومجتمعات الدول الغربية التي تفتقدها. ثم رد العراق الزيارة بزيارة مماثلة تلبية لدعوة قدمها جاك شيراك لصدام حسين الذي كان ظاهرياً الرجل الثاني في النظام إلا أنه في الحقيقة الحاكم المطلق للعراق والفرنسيون يعرفون ذلك جيداً.
بوصول صدام حسين إلى فرنسا شعر المسؤولون الفرنسيون المكلفون باستقباله وخدمته بإحراج كبير لأنه لا يحترم أي تقاليد أو أعراف دبلوماسية أو بروتوكولية، فقد جلب معه جيشاً من الحراس الشخصيين المدججين بالأسلحة، يجولون وسط ممرات وباحات وغرف الفندق، يفتشون كل شيء، وكذلك رافقه فريق من الخدم والحشم والطباخين، ، ونزل في فندق ماريني مقابل قصر الإيليزيه وحمل معه عدة سمك المسكوف ونصبها وسط حديقة الفندق الفخم وبدأت الروائح تتسرب حتى إلى داخل أروقة القصر الرئاسي الفرنسي حسب ما قالت التقارير السرية في ذلك الوقت، ولكن لم يجرؤ أحد على منعه أو حتى تذكيره بأن ذلك لا يدخل في العرف الدبلوماسي والبروتوكولي السائد. وكان صدام حسين يعتقد بأنه يقوم بمفاجأة سارة لجاك شيراك بجلبه بطائرة خاصة من بغداد وبأمر مباشر منه، طناً ونصف الطن من السمك ، وأعد وليمته في فندق الضيافة في التاسع من أيلول سنة 1975، أي في اليوم الخامس لزيارته اليتيمة إلى فرنسا. استغرق إعداد وشوي السمك بهذه الكمية الكبيرة إلى ساعات طويلة والمدعوون ينتظرون ويتضورون جوعاً لساعات متأخرة تجاوزت العاشرة ليلاً واحتسى الحاضرون الويسكي ثم تناولوا العشاء بسرعة وانصرفوا كما شهد بذلك الدبلوماسي المتخصص بالشرق الأوسط سيرج بوادفيكس الذي كان مستشاراً دبلوماسياً لرئيس الوزراء الفرنسي في ذلك الوقت جاك شيراك. ورغم تبرم شيراك في السر إلا أنه لم يرغب في إزعاج ” السيد النائب” كما كانوا يسمونه، بعد كل تلك الجهود التي بذلت لترضيته ودعوته للخروج من العراق وزيارة فرنسا، وهو أمر نادر في حياة صدام حسين. ظلت تلك الحقبة القصيرة من العلاقة الشخصية التي ربطته بصدام حسين ملتصقة بجلد وسمعة جاك شيراك، وحاول طيلة حياته السياسية التقليل من أهميتها كلما سنحت له الفرصة لما كانت تثيره شخصية صدام من نفور في نفوس القادة والسياسيين الغربيين، فضلاً عن الرأي العام الغربي، فيما بعد، وغالباً ما كان شيراك يردد أنه لم يكن سوى منفذ لسياسة عليا فرضتها إدارة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان لضرورات المصلحة الوطنية، ويلقي مسؤولية توقيع عقود وصفقات عسكرية وتجارية مع صدام حسين على من خلفه على مقعد رئاسة الوزراء في ماتنيون مقر رئاسة الحكومة الفرنسية، وخاصة اتفاق التعاون النووي.
بعد مرور ثمانية وعشرين عاماً على ذلك التاريخ أحرج أحد الصحفيين الأميركيين شيراك وسأله عما شعر به عند إبرامه اتفاق التعاون النووي مع صدام حسين، وهل كان واعياً لخطورة خطوته تلك، وذلك في عز الأزمة العراقية سنة 2003، رد جاك شيراك بعصبية: لماذا الإصرار على هذا الموضوع؟ أنا لم ألتق صدام حسين سوى مرتين في حياتي، الأولى سنة 1974 في العراق، والثانية سنة 1975 في باريس، ولم أره بعد ذلك أبداً “. وأضاف: ” في ذلك الوقت كان الجميع يقيمون علاقات ممتازة بصدام حسين، الجميع بلا تحفظ، ولم يكن ذلك أمراً استثنائياً.
وفي الحقيقة أن شيراك التقى بصدام في أربع مناسبات وكان يحيطه بعناية خاصة وبتودد كبير ومبالغ فيه كأنه من أصدقائه الحميمين، وقال له بالحرف الواحد في لحظة هبوطه من الطائرة في مطار باريس في أورلي يوم الجمعة المصادف في الخامس من أيلول 1975:” أنت صديقي الشخصي ويسعدني أن أحيطك بكل تقديري واحترامي ومودتي ومحبتي الخاصة”. وفي مساء اليوم ذاته اصطحبه في جولة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع معه في منطقة المدي وحل في منتجع بو دو بورفانس ذي الطراز المعماري من القرن السادس عشر وصاحبه هو النائب البرلماني عن المنطقة وصديق شخصي لجاك شيراك وهو ريموند تويلليه وقد وصف صاحب المنتجع الضيفين شيراك وصدام بأنهما “كالزوجين الشابين”. وبأمر من شيراك تم تجاوز كافة الإجراءات البروتوكولية المتبعة مع الزوار الرسميين كملكة بريطانيا والرئيس الصيني اللذين حلا ضيفين في نفس المنتجع الذي افتتحه الرئيس جورج بومبيدو سنة 1947.
وكان الزعيمان الفرنسي والعراقي يتناولان الفطور على حافة المسبح وحدهما وجهاً لوجه، كالعاشقين، برفقة مترجمهما فقط ولساعات طويلة. وقد نظم ريموند تويلليه على شرف صدام لعبة تقليدية مشهورة في القرية تتلخص بإطلاق ثورين صغيرين هائجين ويتسابق الشباب لتعليق قطعة قماش على قرن الثور دون أن يمسه هذا الأخير وهي لعبة ممتعة وخطرة تتطلب السرعة والحذاقة وكانت جوائز رمزية تقدم للفائزين من جانب أصحاب المحال التجارية المحيطة بساحة اللعب لا تتجاوز الـ 30 فرنكا إلا أن صدام اندمج باللعبة التي أعجبته فقرر هو أيضاً أن يقدم منحته السخية لكن المبلغ كان خيالياً في حسابات ذلك الزمن وهو 50000 خمسون ألف فرنك لكل فائز وقد أعلن ذلك المسؤول عن الفعالية وسط تصفيق المشاركين والجمهور. وبعد مغادرة صدام حسين استدعت السفارة العاملين في المنتجع وسلمت لكل واحد منهم ظرفا وفي داخله 500 فرنك وكان عددهم 80 عاملاً، وما زال العاملون في المنتجع وسكان بلدية بو دو بروفانس يحلمون بنقود صدام التي كان يقتطعها من قوت أبناء شعبه ليبذرها كيفما شاء.
في إطار ما سمي بـ ” سياسة فرنسا العربية”، التي بدأها الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول في مؤتمره الصحفي الشهير في 27 نوفمبر 1967، في أعقاب حرب الأيام الستة، أو نكسة حزيران، في ذلك العام الأسود أي 1967، عمدت فرنسا للبحث عن حلفاء عرب مشرقيين دسمين ومفيدين لإستراتيجيتها الجديدة بعد تعكر الأجواء والعلاقات مع الحليف الاستراتيجي السابق السابقة لفرنسا في المنطقة أي إسرائيل فوقع اختيارها، بعد ضمان الحليف الضعيف والتاريخي لها وهو لبنان، على العراق ودول الخليج، أول الأمر، ومن ثم اتسعت رقعة العلاقات المميزة لتشمل مصر والأردن، وإلى حد ما سوريا، مع فترات صعود وهبوط، وتوتر وهدنة، وانتعاش وخمود، بين الفينة والأخرى، إلى جانب دول المغرب العربي، وهي الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، وقد صرح الجنرال ديغول في ذلك المؤتمر المشار إليه أعلاه قائلاً:” آن الأوان لنستأنف مع الشعوب العربية في المشرق، نفس سياسة الصداقة والتعاون التي كانت عليها سياسة فرنسا في هذا الجزء من العالم منذ عدة قرون، نعم كانت سياسة صداقة، إذ أن العقل والمشاعر يتطلبان أن تكون هذه السياسة، اليوم، هي القاعدة والأساس الجوهريين لسياستنا الخارجية”.
هذه هي الخطوط العامة للتوجه الدبلوماسي الفرنسي الجديد تجاه العالم العربي والذي أطلقه الجنرال الراحل ديغول سنة 1967 بعد أن انكشفت أمام عينيه حقيقة إسرائيل. كانت بالطبع بداية خجولة بعد عقود طويلة من التعاون الاستراتيجي والعسكري الفرنسي الإسرائيلي على حساب المصالح العربية، وكلنا يعرف دعم وتسليح فرنسا لإسرائيل بأحدث الأسلحة منذ تأسيسها، وتزويدها بلا قيد أو شرط بالتكنولوجيا النووية الفرنسية، بل وحتى مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر مع بريطانيا سنة 1956 .
وفي سنة 1969، في عهد الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو تكرست سياسة فرنسا العربية حيث ازدهرت الزيارات والتبادلات التجارية والصفقات العسكرية بين فرنسا والعالم العربي وكلنا يتذكر الصفقة التاريخية بين فرنسا وليبيا حيث باعت فرنسا 110 طائرات ميراج حديثة إلى ليبيا، رغم الاحتجاجات الإسرائيلية والأميركية ضد تلك الصفقة. وعند اجتياح القوات المصرية لقناة السويس والنزول في الضفة الأخرى للقناة التي كانت محتلة من قبل إسرائيل سنة 1973، صرح وزير خارجية فرنسا آنذاك ميشيل جوبير ، معبراً عن موقف بلاده الرسمي من الاجتياح المصري قائلاً:” إن وضع القدم على الأرض الوطنية لا يشكل اعتداءً على إسرائيل”. وفي نفس العام جاء تهديد الدول المنتجة للنفط بغلق حنفية البترول على الغرب إذا استمرت في دعم إسرائيل في عدوانها على العرب، مما حول ملف الشرق الأوسط إلى ملف اقتصادي ذي أهمية قصوى وحيوية ويؤثر على الاستراتيجيات الدبلوماسية والاقتصادية الحيوية للغرب، عندها انتبه الجميع لأهمية الشرق الأوسط ودوله في خارطة العلاقات الدولية. في سنة 1975 اتجه الرئيس الفرنسي الشاب، في ذلك الوقت، فاليري جيسكار ديستان صوب دول الخليج وصار يتردد على أمراء وحكام الخليج ويقيم علاقات خاصة وشخصية حميمية معهم وترك لرئيس وزرائه جاك شيراك مسؤولية الاهتمام بالعرس الفرنسي العراقي كما كانوا يصفون نشوة العلاقات الفرنسية العراقية آنذاك. وقد تسلم جاك شيراك بالفعل مهمة إحياء ” سياسة فرنسا العربية” التي رسم خطوطها العامة الجنرال شارل ديغول، أي تحمل الميراث الديغولي في هذا المجال. وكانت تلك المهمة بمثابة قناعة راسخة في ذهنه بضرورة تجذير وتعميق وتكريس هذه السياسية، خاصة بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية، بعد أن أصاب تلك السياسة العربية لفرنسا فترة خمول إبان مرحلة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران الذي حكم فرنسا لمدة 14 عاماً، باستثناء العلاقات التي ربطت فرنسا بالعراق والتي تمتنت وتطورت في عهد ميتران نكاية بإيران الإسلامية(يتبع).