صدام يشتري مئة طائرة ميراج فرنسية الصنع قبل معرفة ثمنها
كشفت مغامرة غزو صدام حسين العبثية للكويت ومحاولات ميتران الفاشلة لإقناع صدام بالانسحاب، لفرنسا حجمها الحقيقي على رقعة الشطرنج الدولية كما كان يسميها مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر بريجينسكي، وهي أن فرنسا ليست سوى دولة صناعية متقدمة من الحجم المتوسط و لا ترقى إلى مصاف الدولتين العظميين السابقتين، أي الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي السابق. كان ديغول يعتقد أن مهمة فرنسا بين هذين العملاقين هي أن تسمع صوتها وخاصة في العالم العربي. بيد أن قرار صدام حسين بغزو الكويت كان أول إشارة ملموسة لنهاية الحرب الباردة وانهيار نظام القطبين، بعد أن كشف سقوط جدار برلين مدى ضعف وهشاشة الاتحاد السوفيتي وتفتته من الداخل، حيث تخلى عن حلفائه وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم ومن بينهم العراق، الأمر الذي لم يدركه صدام حسين ونظامه ولم يقرأه قراءة صحيحة، بينما فهم الرئيس الفرنسي المغزى الحقيقي، وأدرك الدلالة الإستراتيجية لذلك الحدث، وبذل كل ما في وسعه لحمل صدام على إنهاء الأزمة سلمياً والانسحاب بلا قيد أو شرط من الكويت مقابل بقائه في الحكم ومنع نشوب الحرب الدولية ضده إلا أن جهوده ذهبت هباء ، وإحراجه لفرانسوا ميتران الذي خطب في الأمم المتحدة متحدياً أميركا وواعداً صدام حسين بأن كل شيء سيكون ممكناً لو أعلن صدام فقط نيته الإنسحاب، عندها قرر فرانسوا ميتران الانضمام إلى قوات التحالف الدولي الذي حرر الكويت سنة 1991.
كان جاك شيراك يحضر بهمة وحسابات دقيقة لاقتحامه قصر الرئاسة في انتخابات 1995 الرئاسية من مكتبه الفخم في بلدية باريس، وقد نجح في مساعيه وأصبح رئيساً لفرنسا بالفعل سنة 1995، وعمد مباشرة إلى تنفيذ وعده بإحياء ” سياسة فرنسا العربية” في خطابه الشهير الذي ألقاه في جامعة القاهرة في 8 نيسان 1996 وقال فيه :” إن سياسة فرنسا الخارجية هي الاستمرار في نهج الجنرال ديغول، ويعرف العرب أن بإمكانهم الاعتماد علينا والاستناد إلينا في قضاياهم وإن فرنسا أمينة ومخلصة لعدد من المبادئ الأساسية التي خطها الجنرال ديغول وحملنا أمانتها وقررنا أن نتحمل الإرث الديغولي”.
لم ينس جاك شيراك تعلقه واهتمامه السابق، بالعراق، وأهميته الاقتصادية والسياسية التي ذاق طعمها في سبعينيات القرن العشرين. وعندما استقبل صدام حسين في باريس في أول وآخر زيارة رسمية له لفرنسا، فتح أمامه جميع الأبواب، خاصة مركز الأبحاث الذرية في كادراش ، والذي كان يعتبر في ذلك الوقت أحد أكثر المراكز العلمية تطوراً وتقدماً في العالم من الناحية التكنولوجية. وقد أخذت صور فوتوغرافية ما تزال متوفرة في الأرشيف، تظهر صدام حسين وجاك شيراك يرتديان البلوزات البيض التي يرتديها العلماء والعاملون عادة في المختبرات العلمية، وتحمل علامة مفوضية الطاقة النووية وفي خضم اندفاعة وحماسة اللقاء والزيارة التاريخية التي جمعتهما، أعلن جاك شيراك التوقيع الوشيك بين البلدين، فرنسا والعراق، على اتفاق تعاون ذري قائلاً:” إن العراق على وشك أن يبدأ برنامجاً نووياً طموحاً ومتماسكاً وإن فرنسا ترغب بالمشاركة في هذا الجهد في مجال المفاعلات التي تعمل بالماء في الوقت الحاضر”. ثم رافق صدام لحضور عرض عسكري نظم خصيصاً له من قبل المديرية العامة للتسلح في وزارة الدفاع الفرنسية حيث أعجب صدام حسين أشد الإعجاب، إلى حد الوله، بالطائرات الفرنسية الحربية من طراز ميراج واحد mirage 1 وكانت آخر صرخة في مجال الطائرات الحربية القتالية المطاردة التي أنتجتها مصانع داسو فصرخ صدام فرحاً كالطفل :” متى سنحصل عليها؟”.
لم يسأل عن ثمنها ولا عن كيفية الحصول عليها والشروط المترتبة على اقتنائها فقط سأل عن الـ ” متى” وكأنه كان واثقاً من حصوله عليها بأي ثمن تحدده فرنسا لبضاعتها. وقد اشترى بالفعل أكثر من مئة طائرة من ذلك الطراز والتي دمر أغلبها في حرب الخليج.
استغرقت زيارة صدام حسين الرسمية الوحيدة لفرنسا سبعة أيام، وهي مدة استثنائية في سياق الرحلات والزيارات الرسمية المعتادة. لم يفترق الرجلان عن بعضهما لحظة واحدة إلا في وقت متأخر من المساء عند الخلود إلى النوم. وفي أثناء مأدبة عشاء وحفلة ساهرة أقيمت على شرف صدام حسين في جناح الاحتفالات لويس الخامس عشر في قصر فرساي التاريخي، قدم جاك شيراك لصدام حسين سفير فرنسا القادم في بغداد للتعارف وهو جاك موريزيه وقد سجل هذا الدبلوماسي المخضرم في مذكراته عن تلك اللحظة انطباعاته عن وجود “تجاذب وتقارب بل وتشابه فيزيائي في القامة والسلوك بين رئيس وزراء جيسكار ديستان ونائب الرئيس العراقي الذي كان يرعب مرافقيه بمجرد نظرته إليهم “، واستمر قائلاً:” وكانا شابين مليئين بالحيوية وعازمين على بلوغ الموقع الأول في الدولة في بلديهما بكل الطرق وبأي ثمن كان : على حد تعبير جاك موريزيه. كان عمر صدام حسين آنذاك 38 عاماً، أي أصغر بخمس سنوات من مضيفه الفرنسي جاك شيراك وكان هناك فرق كبير آخر بينهما وهو أن صدام حسين كان أصلاً يمارس السلطة المطلقة في بلده ولم يكن رئيسه الرسمي المهيب أحمد حسن البكر سوى واجهة لا حول له ولا قوة. بينما كان شيراك يعمل تحت إمرة رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطياً فاليري جيسكار ديستان ولم يكن سوى الرجل الثاني في سلم السلطة التنفيذية. ولم يمض وقت طويل حتى تبوأ صدام حسين تقاليد السلطة المطلقة بانقلاب على قيادة حزبه الحاكم وأزاح البكر من موقع رئاسة الجمهورية وأعدم عشرات القياديين الحزبيين في حزب البعث الحاكم بيد رفاقهم بتهم ملفقة للتآمر عليه بالتنسيق مع سوريا التي كان على وشك توقيع اتفاقية الوحدة معها.
كان الفرنسيون يعرفون حقيقة صدام حسين جيداً وإنه يحكم بلاده بقبضة من حديد وكل من يتجرأ على انتقاد سياسته وقراراته حتى من بين أقرب المقربين إليه، ويحمل في جعبته تاريخاً مليئاً بالعنف والجرائم، حيث ارتكب أول جريمة قتل بيديه في سن 22 عاماً وشارك في محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم سنة 1959 وهربه إلى سوريا سيراً على الأقدام، وقد تحولت تلك المغامرة الإرهابية إلى رواية كتبها بمبالغة هزيلة الروائي عبد الأمير معلة، وإلى فيلم سينمائي تافه حسب الطلب أخرجه المخرج المصري توفيق صالح، وفرض على الشعب العراقي برمته وعلى مؤسساته التربوية والوظيفية رؤية الفيلم وقراءة الرواية كلما حلت الذكرى السنوية للحادثة التي رواها صدام حسين نفسه إلى شيراك وقد أبهرته وصدقها على ما يبدو وأعجبته شجاعة صدام حسين الفائقة وقوة تحمله للألم وعبوره النهر سباحة وهو جريح ومصاب بطلق ناري في رجله وإخراجه الرصاصة بيده بدون مخدر حسب إدعاء صدام حسين.
سرعان ما فاحت رائحة صدام حسين الحقيقية بعد حربه على إيران وغزوه العسكري للكويت ونهبه لثرواتها وممتلكاتها، وقمعه بالحديد والنار الانتفاضة الشعبية الشعبانية سنة 1991 وقتله أكثر من 300000 مواطن عراقي خلال أسبوعين ودفنهم وهم أحياء في قبور جماعية، وبعد مرور عقد كامل على لقائه بصدام حسين ظل شيراك يردد قصة جرح وهرب صدام حسين على زواره عندما يتطرق الحديث بينهم حول صدام وكان آخر من سمعها منه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق جون ماجور في داونينغ ستريت في لندن. وفي غمرة الحماس تعهد شيراك لصدام بتعلم اللغة العربية بغية الاستغناء عن مترجم بينهما ووعد صدام بتعلم اللغة الفرنسية فكلف جاك شيراك بالفعل الدبلوماسي الفرنسي المستعرب والمتقن للغة العربية بول دبيسPaulDepis، الذي شغل منصباً دبلوماسياً رفيعاً في السفارة الفرنسية في بغداد بتعليمه اللغة العربية وكان ذلك الدبلوماسي من المتحمسين والمناصرين لفكرة التعاون بلا حدود ولا قيود بين العراق وفرنسا، بل وأصبح سنة 1987 رئيساً لجمعية الصداقة العراقي وأحد أعمدة اللوبي العراقي في فرنسا. ولكن تجدر الإشارة إلى أنه يوجد إلى جانب الإعجاب المتبادل بين الزعيمين الفرنسي والعراقي، مصالح وصفقات تجارية مغرية، وهما ليسا عاطفيين وإن مصلحة الدولة تأتي فوق كل اعتبار، على الأقل بالنسبة للمسؤول الفرنسي جاك شيراك بينما كان الجانب الشخصي يأتي فوق وقبل مصلحة الدولة بالنسبة للمسؤول العراقي كما يعتقد الدبلوماسيون الفرنسيون الذين واكبوا تلك الفترة. و لا نبالغ إذا قلنا أن شيراك راهن على صدام حسين ووصفه بديغول العرب ذات مرة على حد قول المتحدث الرسمي بإسم رئيس الوزراء فرانسوا بروبست وتكريس الكاتب شارل سانت برو لتلك المقولة حيث كرس ريشته لتأليف كتاب عن صدام حسين بعنوان ” صدام حسين ديغولية عربية ” تدهورت العلاقة بين الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان ورئيس وزرائه جاك شيراك وحصل الطلاق بينهما بعد عامين من الحكم المشترك فاختار جيسكار شخصية سياسية أخرى لتحل محل شيراك وهو الأستاذ الجامعي والاقتصادي الخبير ريموند بار كانت المنافسة شرسة بين الزعيمين الفرنسيين المتحالفين وكل منهما رئيساً لحزب يميني إلا أن رئيس الجمهورية جيسكار تخلى طوعاً لرئيس الوزراء شيراك عن ملف العلاقات الفرنسية العراقية لأنه يخشى من سلوك الزعماء والقادة الشرقيين والعرب الذين تعاني بلدانهم من الانقلابات العسكرية والتصفيات الدموية المتكررة. وقد اعترف سفير فرنسا في العراق بين 1975 – 1980، أن محدثه ومحاوره الرئيس بشأن العراق لم يكن رئيس الجمهورية أبداً بل رئيس الوزراء شيراك أولاً وريمون بار من بعده ولم يكن جيسكار ديستان يرغب بالتدخل في شؤون دول الشرق الأوسط لذلك لم يرغب في زيارة العراق على الإطلاق بالرغم من الدعوات المتكررة التي أرسلتها له القيادة العراقية عن طريق البعثة الدبلوماسية الفرنسية في العراق حسب الأصول والبروتوكول المتبع لكنه لم يلب الدعوة ولم يرغب بالظهور جنباً إلى جنب مع صدام حسين حتى لا يلوث سمعته كما قال السفير جاك موريزيه في مذكراته.
كانت رحلات جاك شيراك للخارج محاولة منه للابتعاد عن جيسكار ديستان أطول وقت ممكن والابتعاد عن واقعه اليومي المتأزم والضاغط عليه نفسياً. لذلك فكر شيراك بالانفصال عن جيسكار ديستان وتأسيس حزب سياسي مستقل يستلهم الأفكار الديغولية ويسلك النهج الديغولي خاصة في مجال السياسة الخارجية ويبنيه على أنقاض حزب الاتحاد الديمقراطي الجمهوري UDR لكي يكون لنفسه من خلال هذا الكيان السياسي الذي يؤسسه شخصية مستقلة ومحترمة دولياً وأوروبياً ومحلياً بغية أن يكون منافساً قوياً في الانتخابات الرئاسية القادمة سنة 1981 كمنافس لجيسكار وميتران ويتمتع بدعم آلة حزبية منظمة ووفية ومخلصة له ، وكان يخطط لكي يغدو معروفاً في كل مكان في الأرض ويعرفه جميع الرؤساء والملوك ويخطبون وده حسب تعبير جان فرانسوا بروبست المتحدث الرسمي بإسم شيراك في ذلك الوقت والذي كان يسوقه باعتبار أن شيراك هو الخليفة الشرعي للجنرال شارل ديغول ولجورج بومبيدو وكونه الصديق المقرب جداً للصناعي الفرنسي الأشهر مارسيل داسو منتج الطائرات الحربية من طراز ميراج( يتبع).