شيراك يضع طائرة خاصة تحت تصرف كوفي انان من اجل انهاء الحصار على العراق
لقد ذهبت الجمهورية الفرنسية الخامسة بدعمها لصدام بعيداً وبالغت في تأييدها ومساعدتها له. ولقد كشف سفير فرنسا الأسبق لدى الأمم المتحدة بيير لوي بلان عن حقيقة تقول أن فرنسا ، في نهاية سنوات الثمانينيات، عندما كان جاك شيراك رئيساً للوزراء للمرة الثانية ولكن هذه المرة في عهد الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، كانت قد تبنت موقفاً دبلوماسياً مسانداً لصدام حسين وكان شيراك قد أعطى أوامره وتوجيهاته لسفير بلاده في الأمم المتحدة بمنع إدانة صدام حسين في هذا المحفل الدولي بعد استخدامه للأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً ضد الأكراد. وقال السفير الفرنسي في الأمم المتحدة بالحرف الواحد :” إتصل بي جاك شيراك من مكتبه في مقر رئاسة الوزارة في ماتنيون بصفته رئيساً للوزراء وطلب مني التدخل بكل قوة في صياغة نص القرار الدولي الذي كان ينوي توجيه تهمة وإدانة لرئيس الدولة العراقي شخصياً وبالإسم لاستخدامه الأسلحة الكيمياوية ومنع ورود نص بالإدانة الصريحة “.
مازال الغموض يلف تلك العلاقة الخاصة بين المسؤولين العراقي والفرنسي وتحيط الأسرار بالعلاقات الخاصة التي تربط بين فرنسا وعراق صدام حسين خلال السنوات الثلاثين المنصرمة . وعندما طرحت فكرة إزاحة صدام حسين عن السلطة وإطاحة نظامه عام 1991 كان جاك شيراك يعتقد وبقوة أن الأنظمة العلمانية ، والتي وضع نظام صدام حسين على رأسها، في المنطقة ستنتصر على الأنظمة الرجعية والقبلية الموالية والتابعة لأميركا ، كما أورد ذلك بيير لوي بلان في كتابه ” حقيبة دبلوماسية – ذكريات وشخصيات وتأملات” الصادر عام 2004، وكان جاك شيراك يريد ويرغب بأن يجعل فرنسا الحليف الأساسي في الغرب للعرب حسب تقدير هذا الدبلوماسي المخضرم. وقبل شن حرب عام 2003 خاطرت فرنسا وراهنت بعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية وتحدتها في الأمم المتحدة باستخدام حق النقض الفيتو كل ذلك بغية منع إنهيار نظام صدام حسين بأي ثمن ، ولكن ما هو المقابل الذي كانت تأمله فرنسا من ذلك الموقف؟ لو كانت فرنسا قد نجحت في إنقاذ نظام صدام حسين من السقوط وبقائه في السلطة حتى لو وقعت الحرب كان يمكن لها إنقاذ الكثير جداً من امتيازاتها وليس أقلها عقود الشراكة النفطية في الكثير من الحقول الغنية التي أبرمها صدام مع الشركات الفرنسية النفطية العملاقة قبل الحرب بالرغم من الحصار والمقاطعة الدولية ، ولدي تفاصيل وأسرار كثيرة ومدهشة عن هذا الملف ليس هنا مجال ذكرها سأخصص لها بحثا خاصا لاحقاً.
وفي المحصلة النهائية خسرت فرنسا رهانها ولم تحصل حتى على الحد الأدنى من العقود والصفقات التي كان يفترض أن توقعها في ظل حالة الفوضى والدمار والخراب التي تعرض لها العراق من جراء الحرب وحاجته لإعادة البناء والإعمار في كل المجالات والإنطلاق من الصفر تقريباً.
في سياق تلك الصداقة الطويلة الأمد بين فرنسا وصدام حسين ، التي اصطبغت بكثير من الأموال والعقود والصفقات والعمولات المشبوهة خلال سنوات الحرب الرهيبة بين العراق وإيران ومابعدها، حيث تمخضت تلك الصداقة المريبة خلال سنوات الحصار الطويلة عن فضيحة ” الكوبونات النفطية” في إطار قرار النفط مقابل الغذاء وخارجه ايضاً في عمليات تهريب النفط العراقي، والتي نجمت عنها فضائح عن رشاوى وشراء ذمم استفاد منها رجال أعمال وسياسيون ومسؤولون فرنسيون كبار وأشخاص من جنسيات أخرى وصلت إلى إبن كوفي أنان وعدد آخر من النخب الفرنسية.
لم تنكشف بعد جميع أسرار هذه القضية وما ظهر منها وهو فقط السطح العائم من جبل الجليد كما يقول المثل، ويثير الاشمئزاز بخصوص منح كوبونات نفطية لبعض المسؤولين الفرنسيين مقابل سعيهم واستغلال مناصبهم لرفع الحظر عن نظام صدام وإعادة الاعتبار له وإدماجه في المجموعة الدولية ودفاعهم عنه في المحافل الدولية والإقليمية والفرنسية المحلية وكذلك لوقوفهم بعد ذلك ضد الحرب ومحاولات إسقاطه وتحشيد الرأي العام ضد المشروع الأميركي الرامي لإسقاط صدام وطرده من السلطة، وبالمقابل يمنحهم صدام حسين حصصا نفطية بأسعار مخفضة أو مجاناً لكي تباع بالسعر السائد في الأسواق الدولية أو في السوق السوداء . وقد وجهت تهم لإثنتي عشرة شخصية فرنسية معروفة بتهمة تلقي رشاوى وقدموا للمحاكمة في فرنسا كذلك بتهم استغلال النفوذ والمناصب الرسمية لأغراض ومنافع شخصية ورشوة موظفين في الدولة من قبل أجانب . ومن بين هؤلاء المتهمين شارل باسكوا وزير الداخلية الفرنسية الأسبق في حكومة جاك شيراك ،وسيرج بودافيكس رئيس غرفة التجارة الفرنسية – العربية السابق منذ عام 2002 وسفير فرنسي سابق والذي كان مستشاراً دبلوماسياً لجاك شيراك في سنوات السبعينيات، وجان بيرنارد ميريميه وهو سفير فرنسي سابق في إيطاليا والمغرب وممثل فرنسا الأسبق في الأمم المتحدة بين 1991 و 1995 ، ومعهم كثيرون متهمون بمساعدة صدام حسين وأركان نظامه للالتفاف على آليات الأمم المتحدة بغية التقليل من فعالية وتأثيرات العقوبات الدولية وفك الخناق الدولي.
كان طارق عزيز، هو المحاور المفضل لدى الفرنسيين في شبكة الدعم والتأييد الفرنسية للعراق خاصة وأن طارق عزيز يسافر كثيراً ومطلع على العالم الخارجي ويجيد اللغة الانجليزية وهو من الأقلية المسيحية ذات الحظوة لدى النظام السابق . وعندما سئل يوماً عن أي بلد يرغب أن يعيش في حالة حصوله على التقاعد أو خروجه من السلطة قال سأختار مدينة النور باريس.
قال بيرنارد دوران الدبلوماسي الفرنسي العريق في كتابه” سمني سعادة السفير”:” عرفنا كيف نقول لا للحرب على العراق ولم نحسب جيداً نتائج وعواقب وتبعات هذا الموقف الخطير. لكننا لانعرف لحد الآن كيف نجيب على الحرب ضد الإرهاب الإسلاموي المتطرف أو الاعتداءات المتكررة التي يشنها الإرهابيون، ولم تع الدبلوماسية الفرنسية أو تستوعب حقاً بعد أن الإرهاب والتطرف والتعصب شنوا حرباً ضد الديمقراطية وقيمها . ويعتقد القائمون على الكي دور سيه ” أي وزارة الخارجية الفرنسية” كما لو أن الإرهاب والقاعدة ولدوا سنة 2003 مع الغزو الأميركي للعراق وهذا عماء دبلوماسي وسياسي لاعلاقة له بالواقع”.
أما جاك موريزيه سفير فرنسا الأسبق في العراق بين 1975 و 1980 ، أي في العهد الذهبي للعلاقات الفرنسية العراقية فقد صرح قائلاً :” التقيت أكثر من 50 مرة بصدام حسين وهو يحب أن يضفي الطابع الشخصي على علاقاته مثلما كان شيراك . وعندما يستقبلني كان يعطي انطباعاً بأنه يتحاور مع الممثل الخاص لرئيس الجمهورية الفرنسية في حين لم أكن آنذاك سوى سفير بسيط لفرنسا في بلد عربي ” ومع ذلك كان الرئيس العراقي سجيناً في برجه العاجي معزولاً عن العالم الخارجي الذي لايعرف منه سوى القليل الذي تنقله وسائل الإعلام العربية لأنه لا يجيد أية لغة أجنبية ولم يخرج من بلاده إلا نادراً واقتصرت زياراته للدول الأجنبية على رومانيا وروسيا وفرنسا.
لدى المسؤولين العراقيين ، وعلى رأسهم صدام حسين نفسه، مفهوم ضيق ومختزل ومركز حول علاقاتهم مع بقية العالم الخارجي ، حتى مع أصدقائهم القليلين في العالم ومنهم الفرنسيون. وهم يميلون إلى تركيز تلك العلاقات وفق مصالحهم الضيقة . ويتخيلون أن سياسة فرنسا العربية لاتدور سوى حول العراق . واعتقدوا أن فرنسا مستعدة لتدمير علاقاتها والتضحية بتحالفاتها مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل العراق وهم مخطئون رغم غباء الدبلوماسية الفرنسية في هذا الموضوع بالذات”. جاء هذا التشخيص على لسان دبلوماسي فرنسي لم يشأ ذكر إسمه سنة 2002 “. رغم أن التجارب تنفي مثل هذا التصور فقبل سنوات وتحديداً في الأول من نوفمبر سنة 1998 رن جرس الهاتف في بيت السفير الفرنسي في العراق آنذاك إيف أوبان دو لا ميسوزييه بعد منتصف الليل وأيقظه من نومه في مقر سكنه في منطقة المسبح في بغداد وكان على الطرف الآخر من الهاتف طارق عزيز وكان الإحراج بادياً عليه من خلال صوته عبر الهاتف. وكان موضوع المكالمة محرجاً. والرجلان يعرفان بعضهما جيداً وهناك تفاهم بين ممثل صدام للشؤون الدبلوماسية وممثل فرنسا الرسمي في بغداد وغالباً ما يتم اللقاء بينهما في مبنى وزارة الخارجية العراقية عندما يرغب أحدهما تبليغ الثاني رسالة موجهة لرئيسه . وقبل هذه المكالمة بأيام، وعند عودة طارق عزيز من جولة نقاشات مهمة جرت في الأمم المتحدة في نيويورك ، هبط في باريس قبل مواصلته رحلة العودة إلى العراق وألمح للفرنسيين الذين رحبوا بزيارته أن بلده مستعد لإبداء بعض المرونة والتنازلات بشأن ملف العقوبات والمقاطعة الدولية . وقبل هذه الزيارة القصيرة كانت الدبلوماسية الفرنسية ، وبتشجيع من الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان، تسعى جاهدة وتعمل بجدية منقطعة النظير حول مسألة رئيسة وهي كيفية إخراج العراق من عنق الزجاجة والعثور على مفتاح الخروج من الأزمة العراقية التي دخلت في طريق مسدودة بسبب التعنت الأميركي والعراقي على السواء، ألا وهي مسألة المراجعة الشاملة لموضوع نزع الأسلحة العراقية المحظورة مرة وإلى الأبد. فبعد سنوات طويلة من عمليات التفتيش الدولية وما تخللها من عقبات وصعوبات وأزمات عديدة ، بعضها كان خطيراً جداً، أرادت باريس ، عبر دبلوماسية المجاملة ، إقناع صدام حسين أن من مصلحته الموافقة على إجراء مراجعة شاملة وتفصيلية دقيقة لما تبقى من ترسانته من الأسلحة ” الممنوعة” التي يتعين على العراق التخلص منها وتدميرها علنا مع البراهين على عمليات التدمير والتخلص من تلك الأسلحة والتي لاتقبل الدحض أو الطعن. وبالمقابل تتعهد فرنسا وبكل ثقلها الدولي بالحصول على موافقة أميركية من الرئيس بيل كلينتون آنذاك لكي يقبل مقابل التنازلات العراقية وعلى مدى زمني قصير ، بإنهاء العقوبات الدولية التي تشل العراق منذ أكثر من ثماني سنوات وأن يظهر أخيراً بصيص من النور في نفق العقوبات المظلم وألا تبقى العقوبات قائمة إلى الأبد ووضع حد لمعاناة العراق والعراقيين. وقد ترجم التعهد الفرنسي بالفعل في 30 أكتوبر 1998 برسالة من السفير البريطاني في الأمم المتحدة ، عندما كانت بريطانيا ترأس مجلس الأمن، موجهة لمجلس الأمن الدولي بهذا الصدد وإن كانت غامضة وفيها الكثير من اللبس والمواربة إلا أنها كانت تحمل بعض الأمل للعراق. حينها أعتقد الفرنسيون بأن جهودهم الدبلوماسية أثمرت أخيراً وسوف تعطي أكلها بعد أن نجحوا في إحداث شرخ في جدار العقوبات. زج جاك شيراك بنفسه في هذه القضية وبلل قميصه كما يقول المثل الفرنسي . فلقد تعهد لدى بيل كلينتون ، وكان يسميه العزيز بيل، عندما كان هذا الأخير رئيساً للولايات المتحدة الأميركية ، بحمل العراق على التعاون الإيجابي ووعده بالحصول على موافقة وتأييد صدام حسين بشأن المقترح الفرنسي للمراجعة الشاملة والدقيقة والتفصيلية لمسألة الأسلحة الممنوعة أي أسلحة التدمير الشامل التي كان يفترض أن صدام حسين يمتلكها ويخفيها عن المفتشين. ولكن لسوء حظ الجميع انفجرت حينذاك أزمة المواقع الرئاسية في شهر شباط 1998 ، وسرعان ما حثت باريس كوفي أنان لكي يتدخل بنفسه شخصياً لحل الأزمة حتى أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عرض عليه توفير طائرة خاصة تقله إلى أرض الأزمة بغداد، ليتفاوض مع صدام حسين على تسوية مرضية للجميع تمثلت بالسماح لدبلوماسيين أجانب مقيمين في العراق بمرافقة المفتشين الدوليين في المواقع العراقية الحساسة. وبعد أشهر قليلة استقبلت باريس بضجة إعلامية وبحفاوة بالغة رئيس الدبلوماسية العراقية الأسبق وممثل صدام الخاص للعلاقات الدولية طارق عزيز. وباريس متمكنة من الملف العراقي بكافة حذافيره ومطلعة على كافة تفاصيله وحيثياته إذ أن العراق هو المكان الوحيد في الشرق الأوسط الذي مازال لديها فيه مكانة وتأثير وصوت مسموع.