صدام وفرنسا : علاقة ملتبسة – القسم الثالثاسرار المكالمة الليلية التي اطاحت بالعشق المحرم بين صدام وشيراك

صدام يخصص طائرة خاصة لرئيس لبناني سابق للتوسط مع البيت الابيض

وكان طارق عزيز يردد أمام محاوريه في وزارة الخارجية الفرنسية وأصدقائه في مجموعة النفوذ والضغط الفرنسية أو اللوبي الفرنسي الموالي للعراق ، نفس الخطاب  الدبلوماسي :” إن الدراسة التفصيلية والمراجعة الشاملة هي الحل الوحيد للخروج من المأزق وإنهاء الأزمة. وهذه المرة لدي أمل كبير بأن الحظر والحصار المفروضين على العراق سيرفعان خلال بضعة أشهر قليلة”. وإزاء إصرار المفتشين الدوليين عن أسلحة التدمير الشامل المحظورة حتى داخل المواقع والقصور الرئاسية للتأكد من عدم إخفاء النظام العراقي لتلك الأسلحة في تلك الأماكن، ورفض الرئيس العراقي القاطع الإمعان في إهانته واستفزازه والمس بسيادته ، توصل كوفي أنان وبمساعدة باريس  وتدخل فرنسي فاعل إلى تسوية  واتفاق مبدئي وسطي يتضمن إيجاد نظام جديد للتفتيش قاد إلى تهدئة الأزمة  وبذلك نجحت الوساطة الفرنسية نسبياً وكان طارق عزيز فرحاً بتلك النتيجة حسب تصريح الدبلوماسي الفرنسي المخضرم سيرج بوادوفيكس سكرتير عام سابق لوزارة الخارجية الفرنسية في عام 2002.        
لنعد إلى المكالمة الهاتفية الشهيرة التي وضعت حجر الأساس لسوء التفاهم الدبلوماسي الفرنسي العراقي الأول . كان طارق عزيز على الطرف الآخر من الهاتف محرجاً وهو يبلغ السفير الفرنسي مسيو أوبان دولا ميسوزييه في تلك المكالمة الليلية المتأخرة جداً ” رفض العراق ، أو بالأحرى رفض سيده صدام حسين ، الذي لا يمكن مناقشة قراره ، للمقترح الفرنسي  الدولي بشأن المراجعة الشاملة  لموضوع أسلحة العراق المحظورة كخطوة نهائية وضرورية  لرفع الحصار وإعادة العراق إلى أحضان المجموعة الدولية. أصيب السفير الفرنسي بصدمة ولم يجد الكلمات المناسبة للرد على هذا القرار الصاعق. عندها حصل شرخ في صرح البنيان الدبلوماسي العراقي – الفرنسي وحدث تصدع في جدار الثقة بين بغداد وباريس . عند ذلك صرح جاك شيراك للمقربين منه وأمام مستشاريه :” لقد خسرني العراق. لقد أضاع العراق فرصة تاريخية لن تعوض أبداً ووضعنا في موقف محرج جداً  وليتحملوا نتائج ما قرروه”. وصار الجميع في باريس وفي كل مناسبة يردد هذه العبارة أمام العراقيين، عندها ساد شعور  الأمل المحبط بشأن العلاقات بين البلدين. وفي نفس الليلة التي تلقى فيها السفير الفرنسي في العراق رفض صدام حسين للمسعى الفرنسي الذي تطلب جهوداً ومساعي كثيرة لإقناع الآخرين بجديته وفاعليته، أرسل وزير الخارجية الفرنسي آنذاك هيوبير فيدرين رسالة غاضبة إلى طارق عزيز أطلعت على فحواها وكانت شديدة اللهجة . وقد ذكر الدبلوماسي الفرنسي سيرج بوادفكيس  سكرتير عام وزارة الخارجية أنها كانت رسالة نادرة في عنفها وشدتها جاءت تعبيراً عن غضب وإحباط وزير الخارجية الفرنسي الذي أوصله للعراقيين وقال فيها بما معناه:” لقد خنتم ثقتنا بكم ” وكان خطأ دبلوماسياً كبيراً في سلوكه غير الدبلوماسي هذا كأنه المعلم الذي يوبخ تلاميذه . ولقد تركت تلك الرسالة آثاراً سلبية لاتمحى على طبيعة العلاقات بين باريس وبغداد  بما عرف عن العراقيين من عزة نفس وعدم تقبلهم مثل هذه المعاملة الفوقية  التي تفتقد للياقة الدبلوماسية . وقد كانت ردة فعل العراقيين عنيفة وغاضبة وتفتقد للحكمة والتأني  على تلك الرسالة الفرنسية وكانت بداية لتدهور العلاقات الفرنسية  – العراقية . والأخطر من ذلك أن الرفض العراقي للمقترح الفرنسي أعطى الذريعة للأميركيين لإطلاق العد التنازلي لعملية عسكرية ضخمة عرفت بإسم “ثعلب الصحراء” بعد شهر ونصف من تلك المكالمة الهاتفية المشؤومة . وكان طارق عزيز يردد أمام سامعيه أنه يحترم الحنكة الفرنسية ويقدر الاحترام الفرنسي للعراق ولرئيسه ولشخصه هو خاصة عندما كان هيوبير فيدرين يرافقه مودعاً حتى باب المصعد في وزارة الخارجية الفرنسية. ويأسف لما وصلت إليه الأمور من سوء فهم وتوتر لامبرر له.
ما الذي حدث بالفعل في تلك الساعات العصيبة وغاب عن أذهان القائمين على الدبلوماسية العراقية آنذاك؟ الذي لايعرفه العراقيون هو أن باقي أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمي العضوية  كانوا يتربصون بالدبلوماسية الفرنسية ويخططون لإفشال مساعيها معتمدين بذلك على غباء القيادة العراقية وطيشها وافتقادها للحكمة وللحسابات السياسية والاستراتيجية الدقيقة والصحيحة لكي يثبتوا للفرنسيين عبث جهودهم مع مثل هذا النظام الأرعن.
كانت الرسالة البريطانية لمجلس الأمن، في آخر يوم للرئاسة البريطانية لهذا المجلس حبلى بالتناقضات التي أرادت فرنسا استثمارها لتمرير مقترحها والتصويت عليه دولياً . وكانت بريطانيا كما هو معروف ثاني عدو وخصم لدود للعراق بعد الأميركيين وكانت رسالة قاصمة . فقد أشارت الرسالة إلى المراجعة الشاملة والدقيقة كما أراد الفرنسيون لكنها لم تشر صراحة إلى البند 22 من القرار رقم 687 الصادر عن مجلس الأمن المتعلق بشروط رفع العقوبات عن العراق. أخضعت الرسالة البريطانية التي وافق عليها كافة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إلى نقاشات معمقة داخل القيادة العراقية لكن العراقيين لم يقرأوا ما بين السطور فيها كما كان يأمل الفرنسيون. وعند عودة طارق عزيز إلى العراق بعد مروره بباريس اجتمع مجلس قيادة الثورة في ثلاث جلسات مطولة لسبر  نواياها  قبل إصدار بيان برفضها.
وقد علق السفير الفرنسي في العراق أوبان دو لا ميسوزييه بأسى:” لقد انتصر الصقور المحيطون بصدام حسين كما كان يأمل الأميركيون” وأضاف قائلاً:” التقيت بطارق عزيز ووجدته متجهماً بعد إبعاده عن الملف دبوماسياً وتجريده من صلاحياته في هذا الملف. لقد قرأ المتشددون والمتملقون في النظام العراقي تلك الرسالة قراءة سطحية وحرفية ولم يكن أي منهم من يمتلك كفاءة دبلوماسية أو ثقافية تعينه على فهم ما تخفيه بين السطور، مركزين على  الثغرات دون الالتفات للضمانات التي تحتويها تلك الرسالة. وكانت القيادة العراقية التي أصابها الصمم وغشاوة الرؤية الصحيحة ، كمن يطلق النار على قدميه بسبب فقدانهم للثقة بالغرب  الذي نكث وعوده الكثيرة في رفع العقوبات “. وكان الرد العراقي غبياً كما وصفه الدبلوماسي الفرنسي فخصوم النظام العراقي عاتبوا فرنسا على موقفها الداعم لصدام حسين إذ أنهم يعتقدون بعدم جدوى مثل هذا الجهد وأنه لاشيء ينفع مع مثل هذا النظام لكنها مابرحت تردد أنه يجب أن يبقى داخل إطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن وأن يعالج الملف من قبل المجموعة الدولية برمتها وليس من قبل أطراف فيها خارج الأمم المتحدة. إلى أن حدثت عمليات التصعيد الأميركية وخلقت أزمة صيف سنة 2002 وقادت إلى حرب الخليج الثانية وإطاحة نظام صدام حسين واحتلال العراق وتدميره بالكامل دولة ومؤسسات وبنى تحتية حتى أواسط 2008 . وبعد أن قلصت باريس اتصالاتها السياسية والدبلوماسية مع بغداد قبل السقوط  صرح دبلوماسي فرنسي بأسى قائلاً:” لم يعد لدينا ما نقوله للعراقيين أكثر مما قلناه  لكنهم أصيبوا بالصمم  وكأنهم يتبنون خياراً انتحارياً” ، كان ذلك في ربيع  2002وكان آخر لقاء جمع بين مسؤولين فرنسيين بصدام حسين يعود إلى آذار / مارس 1998 عندما ضيع العراق فرصته التاريخية وأنهى قصة العشق المحرمة مع باريس.
كان طارق عزيز قد اتصل هاتفياً،و بأمر مباشر من صدام حسين في أكتوبر 2002 بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة طالباً منه التوسط والاتصال بالرئيس الفرنسي جاك شيراك لكي يستقبل في باريس مبعوث الرئيس العراقي الخاص صدام حسين إلا أن الرئيس الفرنسي أعتذر ولم يكن مستعداً للمغامرة مجدداً مع العراقيين متذرعاً أن الوقت غير مناسب مع أنه لا يعارض مبدأ الزيارة  لكنه يعترض على التوقيت وكانت المناقشات بشأن الأزمة العراقية في مجلس الأمن الدولي على أشدها . وقد طرق صدام حسين باباً أخرى بعد يأسه من التدخل الفرنسي لإنقاذه  فطلب من الرئيس اللبناني الأسبق أمين جميل الذهاب إلى أميركا على نفقة العراق وبطائرة خاصة يستأجرها له العراق من إحدى الشركات للتفاوض باسمه مع الإدارة الأميركية وتقديم أية تنازلات مطلوبة والموافقة على جميع الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على النظام العراق عدا التخلي عن السلطة وبالفعل قام أمين جميل بمهمته ولم يفلح فيها أمام إصرار الأميركيين على طرد صدام حسين من السلطة بلا أي قيد أو شرط.
مشاعر  صدام حسين تجاه جاك شيراك ظلت كما هي عليها سنة 1972 – 1975  عندما كانت هناك لقاءات شخصية وزيارات بين الرجلين.  فحتى لومرت ثلاثة عقود  يبقى شيراك صديقاً شخصياً  لصدام حسين حسب اعتقاد هذا الأخير وهو لايعرف أنه في السياسة لا توجد صداقات دائمة بلا مصالح دائمة. لذلك لم ينطق صدام حسين بكلمة سوء واحدة ضد جاك شيراك قط. بل أنه أرسل في أيلول سنة 1996  بباقة ورد ضخمة جداً للسفارة الفرنسية في عمان بمناسبة جولة الرئيس الفرنسي في الشرق الأوسط أثناء محطته الأردنية . وكان رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك فاليري جيسكار ديستان يكبح تطور العلاقات الفرنسية العراقية  ويعرقل فكرة مجيء صدام حسين وزيارته لفرنسا سنة 1975 كما كشف عن ذلك الدبلوماسي الفرنسي جاك موريزيه حين ذكر أن جيسكار ديستان لم يكن يرغب بتحمل تبعات الملف العراقي  لاسيما في المجال النووي. واضاف الدبلوماسي الفرنسي المعروف  أن الرئيس جيسكار ديستان استقبله مرتين فقط في قصر الإيليزيه أثناء خدمته كسفير لفرنسا في العراق بين 1975 و 1980 . وقد تكفل السياسي ميشيل دورنانو صديق جيسكار ديستان ووزير الصناعة في حكومته آنذاك وأندريه جيرو مدير المفوضية الفرنسية العليا للطاقة النووية بإقناع الرئيس الفرنسي بالموافقة على صفقة شيراك – صدام  ببيع مفاعل أوزيراك النووي للعراق  وبذلك تم توقيع اتفاق التعاون النووي الفرنسي – العراقي رسمياً في 18 نوفمبر 1975 ونشر في الجريدة الرسمية بعد سبعة أشهر من تاريخ التوقيع . وكانت الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت مستبعدة عن هذا الملف عمداً من قبل شيراك ولم تشرك في جلسات المفاوضات التي قادها صدام حسين من الجانب العراقي وجاك شيراك من الجانب الفرنسي لذلك أبدت الوزارة بعض التحفظ والتردد على تلك الصفقة ، لاسيما إثر تصريح صدام حسين في سبتمبر/ أيلول 1975 عند خروجه من الإيليزيه أن الاتفاق يشكل الخطوة الأولى نحو صنع السلاح النووي العربي. وكان الدبلوماسيون الفرنسيون في العراق يزودون دولتهم بالتقارير الدقيقة عما يجري داخل العراق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وقد جلب الاتفاق النووي المبرم بين العراق وباريس لفرنسا 1،5 مليار دولار  وكان صدام قد خصص ثلث عائدات النفط لكي تصرف لتكوين جماعات ضغط وتأثير موالية للنظام العراقي أي لوبيات  سواء داخل العالمين العربي والإسلامي أو داخل العالم الخارجي في أوروبا الغربية لاسيما في فرنسا التي حصلت على حصة الأسد، والكتلة الشرقية لاسيما الاتحاد السوفيتي ورومانيا،وتخصيص ثلث العائدات لاستثماره في التنمية الداخلية  في العراق والثلث الباقي يودع في البنوك الفرنسية والسويسرية كما ذكر ذلك السفير الفرنسي جاك موريزيه  بحكم قربه من القيادة العراقية وزياراته المتكررة لصدام حسين. وأخيراً جاءت الانعطافة الدبلوماسية الكبرى بين فرنسا والعراق قبل غزو العراق ونشاط باريس المحموم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لصالح النظام العراقي ومحاولة انقاذه من السقوط ومنع وقوع الحرب بأي ثمن والتي قادها دومينيك دوفيلبان وزير خارجية فرنسا آنذاك بتوجيه مباشر من جاك شيراك وتنسيق معه في كل دقيقة . ومن ثم حدوث الانطلاقة الجديدة بعد عام 2003 عندما تم اختيار بيرنارد كوشنير وزيراً للخارجية الفرنسية وهو صاحب فكرة وأطروحة حق التدخل الإنساني  الدولي ولو بقوة السلاح لإنقاذ الشعوب المقموعة من جلاديها وأحد الشخصيات الفرنسية النادرة التي كانت تؤيد الحرب على العراق . وأول وزير فرنسي يزور العراق بعد الحرب لكنه ارتكب هفوة دبلوماسية خطيرة هي بمثابة خطيئة أكثر منها خطأ او مجرد زلة لسان  عفوية عندما صرح أنه ينبغي تغيير نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي كخطوة ضرورية لتحقيق المصالحة الوطنية في العراق ورغم تراجعه عن موقفه واعتذاره رسمياً وتنصل الحكومة الفرنسية من هذا التصريح واعتباره موقفاً شخصياً لايمثل موقف الحكومة الفرنسية الرسمي ومحاولة الوزير الفرنسي توضيح موقفه أنه نقل رغبات عدد من الزعماء السياسيين العراقيين الذين التقوه وابلغوه ذلك إلا أن ردة فعل العراق كانت قوية وغاضبة قد يحاول ترميم ما نجم عنها من تداعيات وقد قام بالفعل بالمشاركة في جميع مؤتمرات دول الجوار العراقي والتقرب من القادة العراقيين ومحاولة إعادة بناء الجسور بين البلدين  ففرنسا بحاجة للعراق  أكثر من حاجة العراق لفرنسا في الوقت الحاضر ولكن من مصلحة العراق تنويع مصادر دعمه الدبلوماسي والدولي وعدم اقتصاره على الجانب الأميركي  وهذه فرصة أمام الدبلوماسية العراقية يجب اقتناصها وتطوير علاقات ثنائية فرنسية – عراقية  متطورة مبنية على مبدأ الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة .

Facebook
Twitter