صاحب الامتياز
رئيس التحرير
عبدالرضا الحميد

صدام وفرنسا : علاقة ملتبسة القسم الاول

صدام يمول انتخابات اليمين المتطرف الفرنسي بحقائب ملأى بملايين الدولارات

سفير فرنسي يعترف: الطائرات التي قصفت حلبجة بالمواد الكيمياوية فرنسية

 

تشهد الدبلوماسية الفرنسية في الوقت الحاضر أزمة حادة تتفاقم منذ فترة طويلة وأهم ملامح هذه الأزمة هي أن الدبلوماسية الفرنسية لم تستوعب جوهر وأهمية أخطر وأكبر تغيرين حدثا في الربع الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين وهما أولاً سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، والذي أدى إلى انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وثانياً حدوث هجمات الحادي عشر من أيلول2001 في مركز التجارة العالمية في نيويورك وواشنطن في وزارة الدفاع ، وبالتالي فإن فرنسا لم تكيف سياستها الخارجية مع تحولات العالم الخارجي كما ينبغي لأنها ما تزال أسيرة رؤيتها القديمة النابعة من قيم ومعايير وأعراف وقواعد التعامل مع معطيات الحرب الباردة ، ولأنها ما تزال غارقة في جليد نزاع الكتلتين وما ينطوي عليها من حسابات إستراتيجية.من هنا تعاني فرنسا من صعوبات في فرض نفسها على رقعة الشطرنج الدولية مما جعلها ترتكب أخطاء قاتلة في سياساتها الخارجية في كل مكان في العالم، في أفريقيا حيث منطقة نفوذها القديمة في العهد الكولونيالي، وفي أوروبا ، لاسيما بعد توسيع الاتحاد الأوروبي، وفي الحلف الأطلسي ، وكذلك، وهذا ما يهمنا في المقام الأول، في الشرق الأوسط حتى أن الكثير من الخيارات الدبلوماسية كانت تتعارض وتتناقض مع القيم السامية العليا  التي تستند إليها فرنسا منذ الثورة الفرنسية باعتبارها منشأ حقوق الإنسان والحريات الأساسية .
وكمدخل لعلاقة بغداد – باريس يتعين علينا تذكر عبارة جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق عندما كان رئيساً لوزراء فرنسا سنة 1974 في عهد الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان مخاطباً صدام حسين :” أنت صديقي الشخصي وأوكد لك بأنني أكن لك كل تقديري واحترامي الشديدين” . كان ذلك قبل خمسة وثلاثين عاماً تقريباً. ومايزال الكثيرون في السلك الدبلوماسي الفرنسي وفي الوسط السياسي  يعتقدون بأن الوضع في العراق كان يمكن أن يكون أفضل بكثير لو أن صدام حسين بقي في السلطة سنة 2003 على غرار ما حدث سنة 1991 في أعقاب حرب تحرير الكويت ، لأن صدام الذي حوكم وأعدم في ديسمبر 2006، كان شخصاً يمكن أن تتفاهم معه فرنسا ولأنه يمثل حسب اعتقادهم ” الاستقرار” ، على الرغم من كونه استقرارا شكليا ووهميا خادعا حكم على ملايين الناس من العراقيين بالخوف الدائم والرعب والفقر والعوز والحاجة والحرمان من أبسط الأشياء التي تتوفر لأفقر شعوب الأرض، وفي نفس الوقت كان ذلك ” الاستقرار  الوهمي” يضمن للبعض فرصاً  لتوقيع الصفقات والعقود المربحة لتحقيق الإثراء السريع على حساب حقوق ومصالح الشعب العراقي  تستفيد منه عصبة مجرمة  تشكل الحلقات القريبة من صدام فقط.
الصداقة الشخصية بين صدام حسين وجاك شيراك تعود لسنوات بعيدة وهي مدموغة بتداعيات الصدمة النفطية الأولى سنة 1973 . ففرنسا كانت تطمع بالحصول على امتيازات الذهب الأسود العراقي وهي تعلم أن هذا البلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم فضلاً عن أن نفطه يعتبر الأجود والأفضل والأرخص  والأسهل استخراجاً . إضافة إلى أن فرنسا تعتبر العراق منذ زمن بعيد بمثابة الثقل الموازي للتأثير الإيراني في المنطقة. اعتبرت فرنسا آنذاك أن صدام حسين زعيم علماني وعصري منفتح وأكثر قبولاً مقارنة بباقي الزعماء والملوك والأمراء في المنطقة الذين تعتبرهم منغلقين ومتعصبين ورجعيين حتى أنها وصفت بعضهم بالظلاميين.
كان الهدف الخفي لفرنسا منذ نهاية الستينيات هو ترسيخ وتثبيت وتوسيع تأثيرها في منطقة خاضعة تاريخياً وتقليدياً للسيطرة والنفوذ الأنجلو – ساكسوني .
قام صدام حسين في مطلع السبعينيات وبالتحديد عامي 1972 و 1975 ، عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة بزيارتين لفرنسا . وقد أستقبل بحفاوة بالغة تخطت العرف  والإيتيكيت الدبلوماسي المتبع حيث استقبل كأنه رئيس الدولة العراقية الفعلي والرسمي.وفتح له جاك شيراك رئيس وزراء فرنسا آنذاك أبواب مركز الدراسات النووية في كاداراش وهو أحد أكبر وأشهر المراكز النووية تطوراً وتقدماً في العالم . وفي تلك اللحظة اختبرت مفوضية الطاقة الذرية نوايا المسؤول العراقي الحقيقية في هذا المجال.
وبسرعة مدهشة أعلن جاك شيراك التوقيع على بروتوكول أو اتفاق تعاون في المجال النووي بين البلدين، يتم بموجبه تزويد بغداد بمفاعلين نوويين للأبحاث . وكان صدام حسين سعيداً جداً ومنتشياً عندما صرح بحماس وبلا مواربة :” هذه هي الخطوة الأولى نحو صنع القنبلة النووية العربية”.
قدمت باريس إلى العراق  التكنولوجيا الفرنسية المتطورة والحساسة، وبالأخص المفاعل النووي أوزيراك، الذي دمرته إسرائيل عام 1981 بعملية قصف جوي تمت ربما بتواطؤ فرنسي ، مقابل حصول فرنسا على حصة من السوق العراقية الواعدة آنذاك. فكان أن قامت بغداد بطلب شراء طائرات ميراج ف 1 الفرنسية التي تصنعها شركة داسو الشهيرة وكذلك شراء مستشفى عسكري جاهز ومتطور جداً . وفي نهاية سنوات السبعينيات أصبحت فرنسا ثاني مورد للتجهيزات العسكرية والمدنية للعراقيين بعد الاتحاد السوفيتي . وعندما كانت تواجه بغداد بعض الصعوبات في تسديد الديون المترتبة عليها لصالح فرنسا تقوم باريس بإعادة جدولة تلك الديون. أما الطيارون العراقيون الذين خدموا في القوة الجوية في الجيش العراقي وشاركوا في الحرب على إيران وقصفوا مدنها بين 1980 و 1988 وضربوها بالمواد الكيمياوية أحياناً ، فقد تدربوا في فرنسا على فنون القتال الجوي المتطورة في القاعدة الفرنسية سولينزارا في جزيرة كورسيكا . وقد اعترف أحد الطيارين العراقيين في مقابلة مع إحدى الصحف الفرنسية بعد سقوط النظام ، أن كل ما تعلمه من خبرة كان في فرنسا وبفضل جهود مدربيه الفرنسيين.
المعادلة العراقية تنطوي على تناقض ومفارقة تترك المتمعن بها حائراً خاصة من الفرنسيين. فلقد ساعد الغرب وسلح العراق بأحدث الأسلحة ثم بات على هذا الغرب  أن يقصف ويحارب  العراق الذي سلحه ويحارب ضد أسلحة من صنعه أصبحت موجودة بين أيدي العراقيين وذلك خلال حرب الخليج الأولى التي اندلعت إثر غزو العراق للكويت سنة 1990 وشن قوات التحالف الدولية ، ومن ضمنها فرنسا، حرباً ضده سنة 1991. فبعد الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي تأتي فرنسا في المرتبة الثالثة في تسلسل مبيعات الأسلحة في العالم. وقد باعت  وزودت العراق لفترة طويلة بمختلف  المعدات والتجهيزات العسكرية. وقد اعترف السفير الفرنسي بيرنارد دوران بأن طائرات الميراج الفرنسية المطلية باللون الأبيض هي التي شاركت في قصف مدينة حلبجة بالغازات السامة وضربتها بالسلاح الكيمياوي  سنة 1985 وأدت إلى مقتل واستشهاد 5000 ضحية في ثوان معدودات  جلهم من النساء والأطفال والشيوخ والعجائز، فضلاً عن مشاركة طائرات السوبر إيتندارد الفرنسية في قصف المنشآت النفطية الإيرانية وناقلات النفط إبان تلك الحرب.
في ذلك الوقت كانت الصداقة الفرنسية – العراقية تدار وتغذى وتدعم من قبل لوبي فرنسي موال لصدام حسين وكان يشكل قوة ضغط قوية ويضم اللوبي في فرنسا شخصيات حكومية ووزراء ونواب برلمان وإعلاميين ورؤوساء شركات ورجال أعمال وعسكريين وسياسيين ورؤساء وقادة وكوادر عليا لأحزاب سياسية متنفذة أغلبها من اليمين واليمين المتطرف . وكانت السفارة العراقية تنظم في كل عام في 17 تموز حفل استقبال  باذخ في حدائق بيت السفير العراقي في باريس بمناسبة وصول حزب البعث للسلطة بانقلاب عسكري  أسماه ثورة  وجعله يوماً وطنياً. وعلى الرغم من الحرب المشتعلة مع إيران ، وكان العراق فيها هو المعتدي، وعلى الرغم من تجاوزات وانتهاكات النظام الصدامي  لحقوق الإنسان وبطشه بمعارضيه وقسوته ووحشيته ضد شعبه ، لم ينطق أحد من المسؤولين الفرنسيين في ذلك الوقت بتعبير الدكتاتور العراقي أو النظام الدكتاتوري في العراق عندما يتطرق الحديث لذكر صدام حسين ونظامه في جميع المناسبات وحفلات الاستقبال والمحافل السياسية والإعلامية. كان فندق الرشيد في قلب العاصمة العراقية يعج ويزدحم في صالاته وممراته بالدبلوماسيين والسياسيين ورجال الأعمال والكثير منهم من مساعدي وزير الداخلية الفرنسي الأسبق شارل باسكوا الذي تلقى أموالاً نقدية هائلة من صدام حسين في حقائب  لتمويل  حملاته الانتخابية وكذلك كان يتواجد باستمرار في العاصمة العراقية أتباع وأنصار الزعيم الفرنسي اليميني العنصري المتطرف جان ماري لوبن وأعضاء حزبه الجبهة الوطنية  الذين يختلطون ويترددون على الأشخاص المحيطين أو المقربين  من صدام حسين تحت ذريعة فضح وإدانة الحصار الدولي المفروض على العراق منذ غزو الكويت.(يتبع في عدد مقبل).

Facebook
Twitter