مات الشاعر الفحل عبد الرزاق عبد الواحد وإنكسر ظهر الشعر العامودي ، بل ترمّلت القصيدة المقفاة بعد رحيله ، وعلى الرغم من صغر عمري أزاء عمره الشعري الزاخر بالأوسمة والجوائز ، لكن ثمة مشتركات جمعتني به ، بعضها كانت بسبب عبثي وأخرى نتيجة توّطد علاقتي به من خلال صديقي الحبيب كزار حنتوش ، أول لقاء جمعني به في فندق الرشيد ، بعد انتهاء حفلة خاصة أقيمت لشعراء المربد ، ليلتها كانت قلادة صدّام الشعرية تخطف الأبصار بوميض ذهبها على صدره ، حين خرجت مع صديقي الشاعر هاشم معتوق من الحفلة ثملين برفقة الشاعر الراحل رشدي العامل الذي كان يسير مستعينا بعكاز ، فجأة تعثر العامل وسقط العكاز من يده ، أثار المشهد نظر الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي كان يقف مع شبلي العيسمي عضو القيادة القومية لحزب البعث ، وسمعنا صوته مع إبتسامة مازحة :
– ها رشدي وكعت !؟
نظر العامل نحوه بعتب شديد بينما فتحت فمي محتجاً :
– سقط بشرف ، ذلك أفضل من الصعود بزيف .
إنتفض جسد عبد الرزاق عبد الواحد عندما سمعني وترك العيسمي مقتربا مني .. صرخ بوجهي :
– انته بعدك إصغيّر عله هذا الحجي ؟
شعرت بخطورة ما صدر مني ، فإستنجدت بتأريخ عائلتي :
– انا حسن النوّاب
عندما سمع ذلك ، تراجع خطوتين الى الوراء ، خمّنت ان طيف الشاعر الكبير مظفر النوّاب قد مثل امام بصر ابي خالد ، تركني حانقاً ، عند الصباح التقينا به صدفة عند باب فندق المنصور ميليا ، وكنت مع الشاعر رشدي العامل ايضا ، عاتبني بطريقة اشعرتني بالخجل المر حين قال :
– انا احبك .. وكلامك لم يكن بمحله ..لأن المناضل شبلي العيسمي سمعك ..
لم اكن اعرف في حينها ان ذلك الشخص الذي يقف معه كان العيسمي ، قلت له معتذرا :
– كنت ثملاً ..
ولثمت خده بقبلة خاطفة ، اخذ بيدي وحرص ان اجلس لجواره بقاعة الشعر ، المرة الثانية كانت حين كنت رئيسا لإتحاد ادباء كربلاء ، حيث اقمنا مهرجانا شعريا كبيرا في قاعة الإدارة المحلية ، وكان في مقدّمة المدعوين ابا خالد ، ذهبت بمعيّة خالد مطلك يوم كان رئيسا لمنتدى الأدباء الى بيته المنيف على ضفة نهر دجلة ، وطلبنا حضوره ، كنّا قد إستأجرنا سيارة خاصة لنقله الى كربلاء ، قبل ان يغادر منزله سألنا :
– هل أجيء بمسدسي ؟
أجابه خالد مطلك بذكاء :
– سيوف اهالي كربلاء ستحميك .
خلال الطريق توقفنا قرب كشك صغير لتناول المرطبات ، اجتمع الناس حول الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد منبهرين من وجوده ، كانت ايام حصار قاسية جدا ، وان تناول علبة عصير بألف دينار كان ضرباً من المستحيل ، لا أدري حتى الساعة كيف إكترى خالد مطلك تلك السيارة الماليبو التي وزّعها الطاغية على ضباط الجيش ، وقد تحولت بزمن الحصار الى تكسي حتى تسد رمق عوائل الضباط المتقاعدين؟ حين وصلنا الى كربلاء ذهبنا به الى منزل الشيخ عبد علي عبد الخالق الحميري ، الذي كان صديقي منذ ايام الدراسة المتوسطة في مدرسة الكرامة ، لم نجده ، لقد ذهب للإشراف على الحفل ، اذ كان ذلك الإحتفال من نقوده الخاصة ، لبثنا دقائق بمضيفه وقدّم لنا الخدم قهوة بينما إنبرى احدهم وطشّ الحلوى على رأس الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، دخلت برفقته الى القاعة التي غصّت بجمهور غفير، إستدارت العيون ترصد خطواته وهو يجلس بالصف الأمامي ، كان الإحتفال قد سبق الإقتراع على منصب رئيس الجمهورية من قبل الشعب بيومين ، ” إقتراع فنطازي يعرفه الجميع ” ولذا طلب الشاعر رعد بندر من أبي خالد ان يقرأ قصيدة عن هذه المناسبة ، لكن عبد الرزاق عبد الواحد كانت في رأسه تشتعل قصيدة أخرى وقال لبندر بإصرار :
– جئت الى كربلاء حتى اقرأ قصيدة لسيدي الحسين عليه السلام .
حاول بندر ثنيه بما إستطاع ، وعندما شعر بإلحاحه ، هبَّ منتفضا وقال لي بتوتر :
– ارجع بي ياحسن الى بغداد .
وترك القاعة ، لحقت به ، قبّلته وقلت :
– لا عليك يا ابا خالد .. أقرأ ما عزمت عليه ..
عاد الى القاعة وشعلة غضب تتوهج بعينيه ، ولما اعلن عريف الحفل عن إسمه ، ضجّت القاعة بالتصفيق ، وقف خلف منصة الشعر بخيلائه المعهود وفتح فمه ينشد بنبرة حنون إقشعرّت لها القلوب :
قَدمتُ .. وعَفْوَكَ عن مَقدَمي
حسيراً ، أسيراً ، كسيراً ، ظَمي
قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتيْك
سلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ
فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين
مَناراً إلى ضوئهِ أنتَمي
ومُذْ كنتُ طفلا ًوجَدتُ الحسين
مَلاذاً بأسوارِهِ أحتَمي
وَمُذْ كنتُ طفلاً عرفتُ الحسين
رِضاعاً.. وللآن لم أفطَمِ!
سلامٌ عليكَ فأنتَ السَّلام
وإنْ كنتَ مُخْتَضِباً بالدَّمِ
وأنتَ الدَّليلُ إلى الكبرياء
وإنْ كنتَ مُختَضباً بالدَّمِ
وإنَّكَ مُعْتَصَمُ الخائفين
يا مَن مِن الذَّبح ِ لم يُعصمِ
عليٌّ..عليَّ الهُدى والجهاد
عَظُمتَ لدى اللهِ من مُسلمِ
وَيا أكرَمَ الناسِ بَعدَ النَّبي
وَجهاًّ…وأغنى امرىءٍ معدمِ
مَلَكتَ الحياتَين دُنيا وأ ُخرى
وليسَ بِبَيتِكَ من درهمِ
لم يدعه الجمهور يكمل ، طلبوا منه إعادة المقاطع اكثر من ثلاث مرات ، بحضور عضو قيادة قطرية ومحافظ كربلاء ، لقد تفاعل الجمهور مع قصيدته حد ان نشيج بعضهم راح يتردد صداه في القاعة ، لقد أحال الإحتفال بقصيدته عن الحسين الى مأتم كربلائي بإمتياز ، وراحت البيعة للطاغية أدراج الرياح ، كان القاء عبد الرزاق عبد الواحد ساحراً ، لا اظن اني سمعته ينشد بهذا الصدق من قبل ، ابهرتهم القصيدة ، وكان الجمهور يلطم على صدره مع ايقاعها ، بزمن منعت فيه جميع المراسيم الحسينية ، حالما إنتهى ترك القاعة وتصفيق الجمهور يهز اركان القاعة ، تجمعوا حوله خارجها ، يقبلون بوجهه ، سرعان ما أخذته عائدا معه الى بغداد ، بعدها توطّدت علاقتي بأبي خالد ، كنت ازوره مع الحبيب كزار الى غرفته بوزارة الثقافة ، وكان من التواضع انه يعدّ القهوة الينا بيديه في كل زيارة ، كان يحبنا بطريقة عجيبة ، وينصت لكلامنا رغم ثمالتنا ، شاعرا كبيرا ومتواضعا حد انه يربك خصومه بذلك التواضع ، اذكر ان الشاعر حميد سعيد حين سأله الراحل عبد الستار ناصر بلقاء طويل نشرته مجلة آفاق عربية عن أبي خالد ، اجاب قائلا :
– طفلٌ ثري يبعثر قصائده بطريقة غريبة .
والآن .. جثمانه في باريس ، وروحه تطوف مدن العراق .. وهي تردد
دمك الحر علقمٌ ياعراق
يقشعّر التراب
حين يراق .
- info@alarabiya-news.com