تعرضت الديمقراطية ، فكرة ونظرية ومفهوماً ، ومن ثم نظاماً وآليات اجرائية ، الى الكثير من اللبس والايهام والتمويه ، الى درجة بلغ التعقيد فيها مبلغ اعدام الديمقراطية ، جوهراً ومظهراً، مرة واحدة ومعاً.
عزا البعض ذلك الى خصوصيات المجتمعات واختلاف بعضها عن بعض مرة ، والى المستحثات التطويرية والعصرنة مرة ثانية ، والى اختلاف الحاضنات الفكرية والعقائدية والاجتماعية في المجتمعات المتشابهة ، او في المجتمع الواحد ، مرة ثالثة ، وعزا بعض آخر ذلك الى علل اقتصادية ، وتفاوتات زمانية ومكانية ، وحتى مناخية.
لا يخلو اي من ذلك عن موجبات استنباطه الموضوعية والواقعية ، شخصية كانت ام جمعية ، لكن معظمها لم يخرج من معطف الجذر الفلسفي للديمقراطية انما خرج عليه ، فـ(حكم الشعب لنفسه) اخرج من ارضه الفلسفية والقي في تيه الادلجة الضيقة والمواضعات الاقتصادية والتفسيرات المجترحة قسراً والتطبيقات الخالية من لحمة الديمقراطية وسداها ، فالشعب الذي هو كل واحد تحول في (حكم الشعب لنفسه) الى حكم الاغلبية العرقية واهمال الاعراق ذات الاقلية العددية ، في بعض التجارب الغاربة ، وتحول الى حكم الاغلبية العاملة او الشغيلة واهمال سواها تحت يافطة رومانسية عنوانها (ديكتاتورية البروليتاريا) كما في التجارب الديمقراطية الاشتراكية ، بينما تحول الى حكم المعتقد الديني السائد على حساب سواه الاقل انتشاراً كما في بعض التجارب الديمقراطية في بعض الدول ذات المسوح العقائدية الدينية.
كما تحول الشعب في (حكم الشعب لنفسه) الى (حكم الحكومات الخفية) المتمثلة في الطبقة الرأسمالية الحاكمة او المتحكمة التي تسوس بمقدرتها المالية وفاعليتها الاقتصادية وسعتها التأثيرية مكانها وزمانها بثروات غيرها وايد عاملة مغلوبة على امرها كما هو الامر في الاغلب الاعم من الديمقراطيات الغربية ، بينما تحول في بعض دول العالم الثالثة الى حكم العسكر .
واخفقت كل التجارب في التعبير عن الجوهر الحقيقي للديمقراطية الذي يعني شراكة الشعب جميعاً في حكم نفسه حكماً حقيقياً قائماً على حريته في اتخاذ قراره واختطاط خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلائقه مع بعضه ومع سواه . وسر الاخفاق يكمن في تجزئة الشعب وتحويله الى جزء حاكم وجزء محكوم بناء على معطيات ليست ديمقراطية كمعطيات الانتماء القومي او الاعتقاد الديني او النظرية السياسية او الوضع الطبقي او التحزب الفئوي ثم تجزئة الجزء الحاكم الى سلسلة معقدة من الهيكليات التي كلما صعدت بأتجاه قمة الهرم ضاقت وتصاغرت وبعدت الشقة بينها وبين القاعدة وتولدت علائق بيروقراطية وانماط تمثيلية وتحكمية منقطعة الصلة بالاختيار او عدمه عن الشعب.
ونتيجة ذلك ، تحول الانحراف عن جوهر الديمقراطية، الى صانع للطبقات الحاكمة ومضيف الى طبقات المجتمع غير المتصالحة لاسباب اقتصادية واجتماعية في الغالب ، طبقة وجدت في القشري من مسميات الديمقراطية سلماً لبلوغ اشباع انوياتها الصغيرة على حساب شقاء الشعب جراء عدم تحقيق الاسباب البسيطة لحياة حرة كريمة ديمقراطية له.
وادت هذه الفجوة الهائلة بين الهدف الانساني العظيم الذي اجترح الديمقراطية اساساً للعدالة والمساواة وبين تطبيقاتها الكسيحة الظالمة والتمييزية ، الى نشوء (مئات الانماط الديمقراطية) التي تنزاح الى (الاخر) القوي عسكريا واقتصاديا وتقنيا والمالك عنصر التأثير الاول في مؤسسات وآثار ما بعد الحرب العالمية الثانية، تمثلا وتماثلا، انقيادا وانبطاحا، نأيا عن الشعب وارتماء في حضنه (الاخر).
وفي مقابل كل ذلك، كانت هناك نماذج ديمقراطية خارجة على (نص الاخر) مرتمسة في (نص الشعب) قد لا يتجاوز عديدها اصابع اليد الواحدة في كل العالم لكنها ونتيجة سعة تأثيرها ورقي النسق الديمقراطي الذي تنهجه صارت محط عدوانية متوحشة من قبل (حكومات العالم الخفية) وصنائعها الماثلة امام الابصار في ادارات الغرب الرأسمالي المتوحش مثل البيت الابيض واحجاره على رقعة الشطرنج الشرق اوسطية كمشيخات النفط والحريم واخر سلالات الخيبة العثمانية.
ومن هذا التجارب هي تجربة سورية الشقيقة، فسورية هي البلد الدستوري الاول في وطننا العربي الكبير وفي عالمنا الاسلامي الذي لم يسع مشرعه الى تكريس النوع العرقي ولا النوع الديني، وهي البلد الديمقراطي الاول الذي اغاظ الغرب المتشدق زيفا بالديمقراطية فعمد الى تدمير برلمانه، وهي البلد الاول الذي رسس الديمقراطية سلوكا يوميا في الحياة العامة انعكس بشكل شرطي على تحويل الشعب برمته الى شعب منتج قل نظيره في عالمينا العربي والاسلامي، وسورية هي البلد الوحيد الذي حول قلة موارده الطبيعية الى عنصر حاض على الاكتفاء فكانت مكتفية بذاتها غير اسيرة لصندوق نقد دولي او رهينة لبنك دولي او تتنفس الحياة من خلال المعونات والقروض المشروطة السالبة لسيادة الشعب على خياراته الوطنية والقومية، وسورية هي الرئة الوحيدة الذي كان يتنفس منها كل السياسيين المعارضين لانظمة بلدانهم نسائم الحرية فقد استقبلت الشيوعيين العراقيين وهي تقود مشروعا قوميا يختلف عن المشروع الشيوعي، واستقبلت سورية العلمانية الاسلاميين العراقيين من مختلف مللهم ونحلهم، واحتضنت سورية العروبية الكرد العراقيين ومنحتهم فضاء حرا وقتما كانت تطاردهم كل انظمة الغرب المسماة زيفا بالديمقراطية.
وفي ظل الحرب الكونية الوحشية على سورية فانها لم تتعكز على ذلك لاهمال الشرط الديمقراطي للحياة المبدعة المنيعة، فاجرت انتخابات لسلطتها التشريعية قبل عامين في وقت استحقاقها وكان من علاماتها الفارقة ان معارضا سوريا من مدينة درعا حصد اعلى الاصوات في العاصمة دمشق فنال ما يستحقه من موقع في السلطة التشريعية وكان مدعاة لسعادة الحكومة السورية قبل معارضتها.
ورغم شراسة المعركة ضد سورية فانها تتقدم هذه الايام نحو انتخابات للرئاسة السورية.
بيقين مطلق اقول ان انتخابات الرئاسة السورية ستكون مفاجأة تعيد للنوع الديمقراطي الاصيل ريادته بعد ان حاول الغرب المتوحش طمسه لصالح شركاته عابرة القارات وحكومته الخفية.
وبيقين مطلق اقول ايضا ان اهلي السوريين سينتخبون سورية، سورية الذين قالوا للغزاة (لا) باليد واللسان والقلب، لا سورية الذين قالوا باليد واللسان والقلب للغزاة (ان هلموا).
سورية الذين لم يحنوا هاما، ولم يطأطئوا رأسا، ولم يغمضوا عينا، ولم يرهبوا عدوا ولم يخشوا موتا، وكانوا يعيشون ما بين الفرضة والشعيرة الف موت وموت، لا سورية الذين باعوا الارض والعرض بوعد بمنصب حرام، ومال حرام، وجاه حرام.
سورية الذين تصاعدت ارواحهم الى بارئها وهي تنادي ان (حي على سورية)، لا سورية الذين تكدسوا على ابواب زعيم الكفر والشرك والشر والارهاب في العالم منادين ( لبيك يا اوباما لبيك).
سورية الذين قالوا:
اذا سكت الزمان عن المظالم
فقاوم ثم قاوم ثم قاوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) رئيس اللجنة الشعبية العربية العراقية لنصرة سورية والمقاومة، رئيس تحرير الصحيفة العربية