مستشفى أربيل العسكري
في مستشفى أربيل العسكري كان ثمّة اختصاصي برتبة عقيد، في كل مرة أذهب إليه بعيادة أقول له إنني مطارد، هناك من يلاحقني حينما أذهب في إجازة إلى عائلتي، فكان يتحدث معي بلطف وتفهم ثم يعطيني اجازة. وفي مرة أخرى قلت له: أخذ الأشخاص يلاحقونني وأنا أتنقل بين المحافظات حينما أريد أن التحق بوحدتي العسكرية، سألني كيف يلاحقونك؟ قلت: إنهم ينتظرونني في الكراجات وحين أصعد السيارة يصعدون ويجلسون ورائي ليتجسسوا على أفكاري ونوايا قلبي، قال: إذن ابني اصعد في القطار في المرات المقبلة وهو يمنحني اجازة. عدت إليه في مرة تالية وقلت له: إنهم أيضا جاءوا ورائي إلى محطة القطار ودخلوا الى العربة نفسها التي كنت أجلس فيها، انتابت العقيد نوبة من الغضب، دفع كرسيه المتحرك إلى الوراء وأخذ يحرّك يده بعصبية، صارخا بي:” ماذا تظن نفسك، هل أنت جيفارا؟” مَنْ انشتاين؟ هتلر؟ حتى تترك الناس مشاغلها وتلاحقك، ألا تعرف بأنك جندي بائس، جندي لا غير، وهل الناس ليس لديها أعمال غير مراقبتك لمعرفة أفكارك ونوايا قلبك؟” وهو يعطيني اجازة. ولما عدت له مرة أخرى أدخلني الردهة النفسية ليزرقوني بحقن المودكيت المؤلمة (التي تجعلني أترنح لثلاثة أيام) ومكثت هناك أسبوعا أعطاني بعدها اجازة لمدة شهر، مدوّنا في ذيلها “يراجع بعدها”.
في أحد الأيام ذهبت إلى “قلم” وحدتي العسكرية وطلبت منهم أن يسجلوا لي عيادة لأذهب إلى المستشفى، لكنهم رفضوا طلبي، خطوت إلى الحمام وحلقت شعر رأسي وشاربي وحاجبيّ وذهبت إلى ساحة التفتيش بينما السيجارة بين شفتي، كان الآمر يفتش الجنود المصطفين أمامه، حينما رآني نظر إلى الضباط من حوله بامتعاض، من الأكيد كنت أبدو ضد كل ما له علاقة بالنظام والعسكرية واطاعة الأوامر. أشار إلى أحد الضباط أن يسجّل لي عيادة ويرسل جنديا معي إلى المستشفى. من المؤكد كنت أبدو أقرب إلى المسخ منه إلى الإنسان، كان أنفي ينسد دائما بسبب الآرتين الذي كنت أتعاطاه ويصبح تنفسي صعبا، فأمد اصبعي لأنظف منخري أمام الجالسين فيديرون وجوههم مشمئزين من القذارة. حينما وصلنا المستشفى هناك كانت مجموعة من الفتيات يجلسن مع ذويهن، وما أن رأينني حتى أعرضن عني بوجوههن رعبا أو قرفا فأحالوني إلى مستشفى الرشيد في بغداد.
مستشفى الرشيد العسكري
في معظم المراجعات إلى مستشفى الرشيد في بغداد كانت شقيقتي لميعة ترافقني أو أحد الأقرباء المقيمين في بغداد. الذين يدّعون الأمراض النفسية عادة لا يأتون للمراجعة وحدهم بل بصحبة أحد من ذويهم لكي يبينوا للأطباء بأنهم غير قادرين على ادارة حياتهم أو انهم لم يختاروا مراجعة الأطباء وطلب العلاج.
كنت أضع كيسا بلاستيكيا صغيرا في سروالي الداخلي فيه حبوب آرتين. قبل المراجعة ورؤية الاختصاصي بنصف ساعة أتناول حبة 5 ملغم أو 2 ملغم، بعد دقائق من ذلك تشرع الأشياء بالتداعي والتغير من حولي، مثلا يتراءى لي عقب السيجارة الأصفر كأنه مصنوع من ذهب أو أن آرائك الجلوس تأخذ بالتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، أيضا ما أن أتناول العقار حتى يأخذ فمي وأنفي بالجفاف وتضطرب اللغة وتصبح مفككة ويصعب وضعها في تركيب منطقي.
كان في مستشفى الرشيد العسكري ثلاث ردهات نفسية كل واحدة منها مسماة باسم فيلسوف عربي: ردهة “ابن رشد” للجنود تتكون من طابقين، على مسافة قليلة منها ردهة “ابن طفيل” للضباط حيث الغرف مرتبة ونظيفة ومفروشة بالسجاد مع الممرات. وفي الجهة المقابلة ردهة ” ابن زهر” أو ردهة السجن كما كانت تسمى، إنها مخصصة للمرضى الخطرين أو السجناء أصلا حيث الحماية في البوابة والأسلاك الشائكة على الجدران والأبواب المخلعة والحمامات الوسخة والمراحيض القذرة والشجار المتواصل بين المرضى. بالنسبة للذين يدعون الجنون فإن دخول المريض في ردهة ” ابن زهر” يعتبر انجازا أصيلا في تاريخ مراجعاته.
عند الدخول يبدّل المرضى ثيابهم العسكرية بدشاديش زرقاء مقلمة وأنعلةٍ بلاستيكية ثم يُتركون في وسط الردهة حيث قاعة كبيرة خالية من الأثاث عدا منضدة وضع عليها جهاز تلفاز فيما على جهة اليسار تتوزع الغرف والحمامات المطلة على الحديقة الكبيرة.
كنا نجلس على الدرجات الإسمنتية لمدخل ردهة ابن رشد الواسعة أو في الحديقة المجاورة دون ألبسة داخلية، ندخن أو نتبادل الأحاديث، أو نتمدد على الأرض بأعضاء داخلية مكشوفة. في الردهة كنتُ أرى شتى حالات الجنون لدرجة من الصعب على الواحد أن يعرف من هو المريض الحقيقي ومن هو المدّعي، منهم من يعاني من جنون العظمة مدعيا بأنه ضابط برتبة عالية، ومنهم من يشعر بأن الآخرين يراقبونه أو يتجسسون عليه أو يحاولون وضع السم في طعامه من أجل قتله.
كان الآرتين يمنحني هلاوس ورؤى غريبة، وأحيانا احلاما ليلية أكثر غرابة. حينما كنت أتناول الآرتين فإن دقات قلبي تتسارع ويجف أنفي وفمي، كنت أتسكع بين الردهات والحديقة، أو أتمدد على السرير لبعض الدقائق ومن ثم آخذ بطانية وأذهب إلى قاعة التفزيون الكبيرة حيث يمضي المرضى معظم وقتهم؛ مثلا كنت أنام مدة يوميين متتاليين دون أن أعي الوقت الذي أذهب فيه للتغوط أو التبول. أو أدخل ممرا في إحدى الردهات لأشرب ماء فتنقطع سلسلة التذكر فأجد نفسي نائما في الحديقة دون أن أعرف ما الذي حدث قبل ذلك. حينما كنت أتحدث مع امرأة؛ فتارة تظهر لي كأنها أنثى وأخرى بملامح شاب وجسد امرأة، أو أرى أن النافذة قد خرجت من الجدار طائرة باتجاهي ثم تعود إلى مكانها، أو أرى طائر الغراب لحظة يحط على غصن شجرة ثم يتحول إلى عصفور دوري.
في إحدى المرات سألني الممرض أن أذهب معه، قال إن الدكتور يريد أن يراك، ذهبت إلى قاعة الانتظار حيث بضع آرائك من الخشب تجلس إليها ثلاث أو أربع نساء بعباءات سوداء إلى جوار مجموعة من المرضى. حين دخلت سألني الطبيب الذي كان يرتدي صدرية بيضاء طويلة، هل تعرف ما هو عملي، وفي أي مكان نحن الآن؟ فأجبته : أنت جزار ونحن نجلس في سوق الشورجة فغرق في الضحك وأعطاني اجازة، كان اختلاطا حقيقيا للزمان والمكان.
ذات شتاء كنا ننام أنا ومجموعة من المرضى في الطابق الثاني من ردهة ابن رشد، الجو بارد جدا، أحد المرضى اسمه جمال مصاب بهوس الاكتئاب، قصير القامة وبجسم يميل إلى السمنة وشاربين سوداوين كثين، كان يذرع الممر بين الأسرّة المتقابلة جيئة وذهابا وهو يتحدث مع نفسه بصوت عال وعندما يتعب يتمدد على سرير موضوع قبالة سريري، كل بضع ساعات كنت أدخل الحمامات لأتناول حبة آرتين 2 ملغم لأحافظ على اضطراب تخيلاتي ثم أعود لأستلقي على السرير وأنا اتطلع تجاه باب الردهة.. ذات مرة حدثت لي هلوسة؛ رأيت أبي يقف عند باب الردهة بشعره القصير ودشداشته الرمادية وسترته السوداء، يقف هناك ويسأل أحد المرضى عني قائلا:” أريد أن أرى ابني”، صرخت أبي أنني هنا، ذهبت لأجيء به إلى السرير، إلا أنني وجدت مكانه خاليا. بعد ذلك كل ليلة جمال يخبرني أن أباك قد جاء لك بسجائر وامرأة لتنكحها في الردهة ممازحا إياي.