وجدت نفسي أعيد قراءة قصيدة محمود درويش “هي لا تحبّك أنت”، من ديوان “كزهر اللوز أو أبعد” قرأتها بشغف على الرغم من أنني كنت قد قرأتها عدة مرات، وأحفظ مطلعها الجميل الذي شاع كثيرا على ألسنة الكثيرين من العاشقين المنكسرين المتكسبين بالشعر قلوب الفتيات هنا أو هناك، وربما وجدت نفسي ذات نصّ أو أكثر، وذات لحظة بدت متشابهة أعيد الكلمات نفسها دون وعي لأقول كما قال درويش “هي لا تحبك أنت/ يعجبها مجازك/ أنت شاعرها/ وهذا كل ما في الأمر”.
العاشق الجميل
أعيد قراءة العاشق الجميل محمود درويش، لأراه بعين الحب، ليعزز ما “يليق بخيبتي” في مساء شبيه بمساء درويش الحافل بالألم والانكسار، فيرى الشاعر كل شيء من حوله باهتا، وقد تبدل الحال كل الحال، وانتشرت الكآبة في أرجاء المكان، وسكن كل نبض، وخفت كل ضياء، وبردت الأوصال، ولم يعد لأي شيء أي معنى؛ فلم يعد هناك داع للهب الشموع ولا للستائر ولا للنبيذ ولا للقصيدة القديمة، فلتعد كل الأشياء على طبيعتها كما كانت، إنه مشهد خيبة عاشق انتظر لحظة بسيطة لم تكن لتحدث، فيلجأ إلى ما يلجأ إليه الخائبون من العاشقين، إنها القصيدة ملجأ الشاعر/ العاشق الأخير:
وكتبت كي أنسى إساءتها، قصيدةْ/ هذي القصيدة”.
وفي مقابل هذه اللحظة القاسية من انتظار حبيبة لا تأتي، ماذا سيحدث؟ كما جاء في قصيدة “وأنتِ معي”، سيصبح إنسانا آخر، فلا يقف التبدل عند حدود المزاج، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك ليطال طبيعته ومعهوده وعاداته وفلسفته ونظرته لكل ما حاوله، وينسى كل شيء إلا أنهما معا، ليصل إلى هذا الجنون:
درويش كان شاعرا غزليا وعاشقا منكسرا حينا، وحينا منتشيا بالحب وكأس الحب، لكنه كان جميلا غير عبثي
“ولا حب في الحبّ
لكنه شبق الروح للطيران”.
يبدو لي الآن وأنا أفتش عن وجه آخر لدرويش، أنه شاعر غزليّ مرهف وحساس، لم يقف عند ريتا التي حالت بينه وبين عيونها بندقية، بل بحث عن الحب بكل تفاصيله وأشيائه الصغيرة، الصغيرة، ربما كن نساء كثيرات، ربما أحبته جمهرة نساء ذوات حسن وجمال ومناصب، وربما لم يكن كيوسف معهنّ، كان عاشقا راصدا وجعا شاملا ذكوريا- رجوليا- طفوليا- بشريا- إنسانيا، ليس بالضرورة -وهو الشاعر المقاوم- أن يكون عفيفا، وليس شرطا أن يصنف حسيّا، ربما كان حبا وحبا فقط، فليس الحب إلا هكذا، فيه من كل شيءٍ شيءٌ، لا تكتمل فيه لحظة ولا يكبر فيه ظل، فمتعة الحب ربما عدم الاكتمال!
ومن جانب آخر تفتح هذه القصائد أسئلة مثيرة للاهتمام بالغة الدلالة، ومن بينها: هل يستطيع الشاعر -ولو نسي أو تناسى الهم عند احتضاره- أن يعيش من دون أنثى تركض في دمائه كالفرس، وتخضّه كزلزال عنيف، وترجه كزجاجة عطر فاره، وتشربه ويشربها ككأس خمرة معتقة؟
ربما كان الجواب قطعيا بـ”لا” ولا كبيرة موجعة، حتى وإن لم يجد الشاعر أنثاه وملهمته سيخترع شيطانُ الشعر له ملاكا ينضح من عميق خيالها مسارح ألحانه! لقد اخترع الشاعر الجاهلي امرأة وألهها في مطلع قصائده، وظلت هذه القصيدة هي سرّ الشعر والحياة معا، ألم تكن حواء أول ملهمة لآدم، ولكن هل كان آدم شاعرا؟ وإن كان، هل كان شاعرا وجوديا باعتباره كل الوجود آنذاك؟ أم كان مجرد شاعر غزلي؟ ألم تخلق الحياة والقصيدة وحواء في اللحظة ذاتها؟ أكاد أجزم أن الوجود أنثى كذلك حتى آدم نفسه هو أنثى بصيغة رجل!
المرأة والأرض
لم يكن درويش غزليا هنا فقط في “زهر اللوز أو أبعد”، فقد أصدر قبل ذلك ديوان “سرير الغريبة” ذلك الديوان الجامع لكل شتات الفكر الإنساني في الحبّ؛ عذريا وحسيا، ولكن درويش في “سرير الغريبة” كتب عن الحب أكثر، ولم يكتب الحبّ كما عاشه أو تصوره في ديوان “كزهر اللوز أو أبعد”، وخاصة المجموعة الخامسة من قصائد الديوان التي اختار لها عنوان “هي”، وتتكون من إحدى عشرة قصيدة.
كما تحدث في قصائد هنا وهناك مبثوثة في كتبه السابقة، ولكنها لم تخلص للحب وكان يمزج بين المرأة والأرض، ربما كان ذلك حيلة فنية ليستطيع أن يكون غزليا في وقت لم يكن فيه الغزل مسموحا به للشاعر المقاوم، ولعلني أذكّر هنا بقصة الشاعر الصوفي ابن عربي وكتابه “ترجمان الأشواق” الذي قيل إنه كتبه لابنة أستاذه وقد وقع في حبها، فتقنع بالصوفيّة والحب الإلهي هروبا، ربما وجدتُ في ذلك شبها بينهما. وبعد، أستطيع أن أقرر أن درويشا كان شاعرا غزليا، وعاشقا منكسرا حينا وحينا منتشيا بالحب وكأس الحب، لكنه كان جميلا غير عبثي، لأجل ذلك وجبت قراءة وجهه الآخر الذي لا بدّ أن يتضح أكثر بدراسات الدارسين المنهجية، لو أرادوا إغناء المشهد الشعري العام من خلال عالم درويش الزاخر والمتنوع والممتدّ!