كنّا قبل مجيء هذا الزمان اليابس، نسهر بعض ليلنا فنكتب رسالة سيكون مهواها ومثواها حبيب بعيد، ثم نستلّ أجسادنا من سرير الصباح والتنبلة، فنحمل الرسالة العاطرة ونحجّ بها صوب بريد المدينة. بعدها تبدأ عملية لصق الطابع الذي يجعلك تحبّ بلادك وإنْ كانت قد جارتْ عليك. وقد يمرُّ الوقت بطيئا ولزجا حتى تلوح من أول الزقاق دراجة ساعي البريد، فتكاد البنت الحلوة ترمي نفسها من شنشول الشرفة، وفي عبّها طقطوقة “ومن الشبّاك لرميلك حالي، من كثر شوقي إليك ما بنام”. وقبل ذلك سهر أيام ونطر ليال ورفيف قلب طيّب مثل صورة عزيزة بالأبيض والأسود.
اليوم تبدّل الحال والمآل، فالمكاتيب والمراسيل صارتْ إلكترونية جافة، وقد تكون جاهزة ومشتراة من بطن الكومبيوتر، ومفصّلة على قياس الفرح أو الّلطم، والبشر صار فاقدا للصبر الآدمي الجميل ضاربا وجه الكيبورد هالسا بعض لحيته شاقّا زيقهُ، مع أيّ بطء فنّي منبعه شبكة النت حتى لو أكل الأمر من وقته ثلاث دقائق وربع هنيهة.
في العصر الإلكترونيّ الفذّ صار الإنسان سطحيا وفارغا، وأصبحت مساحة التوحّش والشراسة لديه أعظم من مساحة الود والألفة والرحمة، وأيّ غلطة إلكترونية حاسمة بمقدورها الآن أن تأكل نصف الأرض إن وقعتْ بباب الأخطاء النووية.
العصر الإلكتروني الأول كان اخترع الكهرباء والتوربين والتليغراف والطابعة وقوة البخار والأنسولين والأسبرين، ثم عاد ليحطم كلّ هذا المنجز البشريّ المدهش باختراع البارود وأدوات القتل الشامل، وقد تكون الطفرة الاستثنائية الإلكترونية قد أتتْ بما يسهّل وييسر عمل الإنسان الحديث، لكنها من وجه آخر قد حوّلته إلى آلة حادة المزاج وقاسية الشكل.
المشهد صار أكثر دموية والأمراض الجديدة قد وضعت الأمراض القديمة في جيبها. لا كتاب يُقرأ بمكتبة، ولا جريدة تُقلّب بمقهى صباح الخير يا فيروز وفنجان قهوة.
ثورة تواصل ساحقة، وكلّ شيء يعمل بالمصادفة، وعلى الملايين المملينة من الرعية المخدرة النائمة التي ليس تحت يمينها العلم والفهم ومصادر الإلكترون والنت ومتبوعاته بالرضاعة، أن تسأل نفسها سؤال القلق الكبير: ماذا سيحدث لو انقطعتْ عنها، خدمة ونعمة ونقمة الإنترنت أسبوعا واحدا فقط؟.
- info@alarabiya-news.com