(( كم اتمنى أن انام بالقرب من سرير الشارع
اسحب من على جسد الرصيف غطائي
الذي نتدثر فيه معاً
أقبّل يد المارّة
التي تملّس على شعرنا
من دون رفع ذلك الغطاء الذي تمزّق علينا
صعلوك أنا
وكذا ذلك الرصيف
احدثّه عن الأنواء التي انبأتني بالمطر
ويحدثني
عن الغيوم التي خبأت نجمته !
وحينما طال في مابيننا
الجدال أمتعض
وتمتم ببضع كلمات
لم أفهم سوى بعضها
انني لست تلميذه المفضل
تركني
وخلع ثيابه بمنتهى البساطة
وأغمض عينيه
ونام
وبقيت للصبحِ
بنشاز ٍأرتجف !!)).
***
(1)
يعرف د. احسان عبّاس الشعر في ماهيته الحقيقيه فيقول هو : (( تعبير أنساني فردي يتمدّد ظلّه الوارف في الأتجاهات ألأربعه ليشمل ألأنسانية بعموميتها )).
رياض عباس العصمي ، يكتب الشعر حسب مزاجية ذائقته الانسانية الابداعية ، فهو يختار موضوعاته من الحياة اليومية كأغلب الشعراء ، فيعبر عن موضوعه الحامل لفكرة انسانية بصور تنضح شعرا ، الشعر الذي يقول عن شروط تكونه الشاعر اللبناني أنسي الحاج: (( لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية )). ( ينظر: أنسي الحاج: لن، دار الجديدة، بيروت 1994، ط 3 – المقدمة( .
ففيها الايجاز الذي لا يخل بشعرية النص ،وهذا ما نجده في قصيدة العصمي اعلاه ، اذ انها تبدو كقطعة ذات وحدة عضوية موجزة ، الا انها ثرية بالبوح الشعري .
وفيها التوهج الذي ياتي من الفكرة التي تعبر عنها ، والالفاظ الحاملة لها ، بلا نهايات من الايحاءات ،بل هي عالم من الايحاءات الشعرية ، وعالم من العلائق التي تشكل النص الشعري .
وكذلك بالمجانية التي تتصف بها ، و هي مجانية لا زمنية ، اذ انها شكل غير ما عهدناه في قصيدة التفعيلة ، والقصيدة التي تبنى بالشكل العمودي ، وقصيدة النثر التي كتبها العصمي او كتبها الشعراء من غيره.
يبدأ العصمي قصيدة ” متكئاً ينهض الرصيف ” بجملة يقرأ فيها المتلقي جملة خبرية لا تحمل من الشعر أي شيء : (كم اتمنى أن انام بالقرب من سرير الشارع ) ، وهذا صحيح فيما لو ان الالفاظ الداخلة في تشكلها قد قرأناها بوضعيتها القاموسية وليس بوضعيتها الشعرية عندما تكون في حالة ارتباط معنوي داخل جملة نريدها ان تنضح شعرا.
فالسرير هو السرير الا ان ارتباط المفردة بمفردة ” الشارع” منح الاولى قوة في الشاعرية ، لانها بالاقتران هذا صيغت صياغة مجازية ، تولد فيها الشعر الذي يبحث عنه المتلقي.
اللفظتان اصبحتا مجازا عند الاقتران ، واعطى هذا الاقتران طاقة مضافة في ان يكون القول شعريا .
وكذلك القول عن الالفاظ المقترنة الاخرى من مثل ( جسد الرصيف ) ، ( الصعلوك والرصيف ) ، (بنشاز ٍأرتجف) .
***
(2)
انتهت حياة الصعلكة العربية في القرن العشرين وبدأت حياة صعلكة لبعض شعراء العراق خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي ، اذ ان الاختلاف بين وواضح بين مفهومي الصعلكة القديمة ، والصعلكة الحديثة .
فبينما كان مفهومها السابق يعني (( جماعة من الفقراء اللصوص ، انتشروا في الجزيرة العربية خرجوا عن طاعة رؤساء قبائلهم ولم يخضعوا للأعراف القبلية بل تمرّدوا عليها ، ولم يتقيدوا بالتزام القبيلة أو محالفاتها لقبائل أخرى أو تعرض القبيلة لأخطار جسيمة .
وإلى ذلك عرف هؤلاء الصعاليك الشعراء بجرأتهم وإقدامهم على اقتحام المهالك ويمتازون بالشجاعة والصبر وسرعة العدو فكانوا من العدّائين الذين لا يجارون في سرعة عدوهم ، فالحياة والموت سواء في نظرهم و كانوا يغيرون على البدو والحضر ، ويقطعون الطريق ويغيرون على القوافل فيقتلون و يسلبون فيسرعون في النهب ; لذلك يتردد في شعرهم صيحات الجزع والفقر والثورة وكانوا يغزون على أقدامهم فإذا عدوا فاتوا مطارديهم فلم يدركوهم ، وكانوا يقولون الشعر الذي يصوّر أحوالهم ، وكان الصعاليك يجتمعون معاً في بعض الأحيان في غزو بعض القبائل .
فقد كانوا يعطفون على الفقراء والمساكين ، وكثيراً ما كان هدف الغزوة توزيع الغنائم على ذوي الحاجة . و توجه غزواتهم عادةً إلى الأغنياء و البخلاء )). (موقع الملتقى التربوي من النت ).
نجد المفهوم الجديد للصعلكة قد اتسم بفقر الصعلوك واحتياجه للاخرين ، وطلب العون والمساعدة من الاخرين لتامين المال اللازم لشراء الخمرة وما يشبع بطن الصعلوك ، وايضا مسالمته الزائدة مع الاخرين ، وفي ذلك شواهد وامثال عن الشعراء القريبين منا .
هكذا يعيش شاعر القصيدة ورصيف الشارع الصعلوكين يتناقشان ويغضب احدهم الاخر فينام تاركا صاحبه يرتجف من البرد والمطر .
القصيدة ” متكئاً ينهض الرصيف ” تتحدث عن شاعر صعلوك ينشيء صداقة مع رصيف لانه وجد فيه صعلوكا اخر ، ينامان سوية تحت غطاء واحد ، هو السماء المفتوحة:
((اسحب من على جسد الرصيف غطائي
الذي نتدثر فيه معاً)).
يتجادلان ، حيث يعيد لنا العصمي ذكريات الشعراء الصعاليك الذين عاشوا منذ سبعينات القرن الماضي وما زال بعضهم بيننا ، وكلنا يتذكر كيف كان رصيف الشارع صديقا لهم ، حيث ان الصعلكة هي ” ظاهرة اجتماعية برزت على هامش الحياة الجاهلية كرد فعل لبعض العادات و الممارسات ، و استمرت الصعلكة ردحاً من الزمن ” ( موقع الملتقى التربوي من النت ) اذ مارسها مجموعة من الشعراء في النصف الثاني من القرن الماضي في بغداد ، و كان جلهم من المحافظات . ومن بين العوامل التي افرزت هذه الظاهرة عند بعض الشعراء هو هروبهم من جبهات القتال في الحرب العربية الايرانية .
يقول الشاعر العصمي :
((صعلوك أنا
وكذا ذلك الرصيف)).
فان الاثنين ، الشاعر والرصيف ، يبدءان بالحديث والكلام الذي يغضب الرصيف ، فيسكت وهو سكوت دائم ، فيترك الشاعر وحيدا يقضان و يرتجف من شدة البرد والمطر.
انهما صعلوكان ، الشاعر والرصيف ، يتجادلان عن احلامهما ، هو عن ” الأنواء التي انبأتني بالمطر ” فيما يحدثه الرصيف ” ، هكذا يتخيل ، عن الغيوم التي خبأت نجمته !”ويطول الجدال ليفضي الى الامتعاض ثم النوم .
***
(3 )
قصيدة ” متكئاً ينهض الرصيف ” للشاعر رياض عباس العصمي اعادت لنا ذكريات الشعراء الصعاليك في النصف الثاني من القرن العشرين ، نذكر منهم الشعراء : جان دمو، نصيف الناصري ، عقيل علي، كزار حنتوش ، وحسن النواب ، الجيل الذي جاء بعد جيل حسين مردان وعبد الامير الحصيري الستيني ، وصداقتهم للارصفة مستمرة .
يقول الشاعر نصيف الناصري: ((يعيش الصعلوك في البيت أو في الفندق اذا كان قادماً الى بغداد من محافظة أخرى ويقضي جلّ أوقاته مع الناس العاديين والأصدقاء في المقهى أو المكتبة ويذهب الى السينما والمسرح ، ويرتاد الحانة في أوقات معينة لأن جسمه غير مشبّع بالكحول وجهازه العصبي هادئ تماماً ، وأفضل الأوقات عنده تكون المساءات والليل . النقود ليست مهمة بالنسبة للصعلوك اذا أراد الكتب أو الشراب أو الطعام أو الملابس أو بقية الأشياء الأخرى طالما انه ينتج ابداعه ويحيا حياته حسب الأنماط التي اختارها هو ، تأتي النقود بسهولة من المحيطين به . لا يستجدي الصعلوك أحداً وحين يكون عنده المال يوزعه ولا يحتفظ به أبداً مهما كان حجمه وشكله ولونه . لا مال للصعلوك إلاّ عطور وورود الصداقة والصحبة الكريمة ، أمّا الكحولي العاطل عن الفعل والمريض والعصبي والشتّام ، فيكون وجوده في مكان ما نكبة وحالة بائسة ، اذ يتوجب على المرء عدا منحه النقود بشكل يومي ومستمر ، أن ينصت لشتائمه وثرثرته غير المجدية وشكواه المستمرة وبكائه واساءاته البالغة للمكان والحضور .)). (الشاعر . الصعلوك . الشحاذ . الكحولي – الحوار المتمدن )
نصيف وجماعته كان من الصنف الثاني الذي وصفه بالكحولي حيث كان عاطلا عن الفعل والمريض والعصبي والشتّام ، فيكون وجوده في مكان ما نكبة وحالة بائسة ، اذ يتوجب على المرء عدا منحه النقود بشكل يومي ومستمر ، أن ينصت لشتائمه وثرثرته غير المجدية وشكواه المستمرة واساءاته البالغة للمكان والحضور، وهذا الفعل قام به الصعلوك جان دمو في الامسية الوحيدة التي اقامها الاتحاد العام للادباء والكتاب ضد احد الحضور الذي قال له ” اعد” .