عن عمر ناهز 71 عاما توفي الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور برام الله بعد صراع طويل مع المرض.
قبل نكبة احتلال فلسطين بسنتين أي عام 1946 ولد الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في حيفا، لكن عائلته هاجرت من فلسطين سنة 1948 متجهة إلى لبنان ومنه إلى حمص بسوريا، لينشأ الشاعر ويدرس في مخيم حمص للاجئين الفلسطينيين.
دحبور لمن لا يعرفه شاعر عصامي التكوين، لم يتلق تعليما أساسيا كافيا، لكن المتأمل في ثقافته الواسعة يدرك دور القراءة والتكوين الذاتي في نحت ذات الشاعر العميقة، فقد كان قارئاً نهماً وتواقاً للمعرفة، صقل موهبته الشعرية بقراءة عيون الشعر العربي قديمه وحديثه.
من هناك بدأ ليكون صوت فلسطين الشعري الجوّاب في الأرجاء، صوتها الذي تقمّص كل الأمكنة والزوايا، تقمص كل جزء من الحياة ليصدح عاليا بأن هناك وطنا هو “أم البدايات وأم النهايات” كما كان يقول عنه الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
عمل دحبور في مجال الصحافة والإعلام كالكثير من الكتاب والشعراء الفلسطينيين، الذين أضافوا لهذا المجال الكثير، من معين بسيسو إلى محمود درويش وغيرهما، فعمل مديراً لتحرير مجلة “لوتس” حتى عام 1988 ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، كما شغل منصب عضو في “الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين”.
الشاعر الملتزم
ألف دحبور العديد من الأعمال الشعرية القوية بداية من مجموعته الشعرية الأولى “الضواري وعيون الأطفال” التي كتبها في حمص 1964، ثم مجموعته “حكاية الولد الفلسطيني” 1971. و”طائر الوحدات” بيروت 1973، و”واحد وعشرون بحراً”، وصولا إلى مجموعته “شهادة بالأصابع الخمس” سنة 1983، وهي نفس السنة التي صدر له فيها كتاب بعنوان “ديوان أحمد دحبور”.
كما صدرت للشاعر مجموعة شعرية أخرى بعنوان “الكسور العشرية”. وتقديرا لما قدمه من أعمال شعرية حاز الراحل على جائزة توفيق زياد في الشعر عام 1998.
حضور فلسطين في شعر أحمد دحبور لا يجعل من قصائده محلية بل هي نصوص شعرية بلسان إنساني مفتوح
ولم يكتف دحبور بكتابة القصائد فكتب أيضا الأغاني، ولاقت أغانيه انتشارا، منها الأغاني التي قدمتها فرقة أغاني العاشقين الفلسطينية. لذا يمكننا تبين تأثير الشاعر المهم، تأثير لم يقف عند حدود القصائد بل تجاوزها إلى الموسيقى، وإلى حضور الشاعر المقاوم في نصوصه وفي شخصه، وهو الذي لم يتخل يوما عن قضيته.
وقد نعى الشاعر الرئيس الفلسطيني محمود عباس كما نعته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين معتبرة أن الشاعر الراحل شكل نموذجاً متقدماً للمثقف الثوري الذي ربط مصيره الشخصي بمصير شعبه، فكرس قلمه وفكره وشعره لخدمة القضية واحتل في فضاء الثقافة الفلسطينية والعربية موقعاً متقدما.
وطن الشاعر
عاش أحمد دحبور بين أماكن مختلفة من مخيم في سوريا إلى تونس إلى غزة إلى حيفا وغيرها من الأمكنة التي مر بها الشاعر رحالا متنقلا منذ طفولته الباكرة، وربما هذا ما جعل ملمحا من الرحلة في أشعاره، رحلة لا تحضر بمفهومها المعتاد، بل في الرموز التي يتوسلها الشاعر، من الصحراء إلى الأشجار إلى الخضرة والبحر وغيرها من سمات جغرافيات مختلفة عبرها الشاعر، ملتقطا كل تفاصيلها، وصانعا من تلك التفاصيل فلسطينه الخاصة.
من حوار سابق أجراه معه راشد عيسى يقول أحمد دحبور “ميزة المخيم، لا سيما إذا كان مخيماً فلسطينياً في المنفى، أنه يشكل مجسماً مصغراً لفلسطين”.
من هنا نفهم حضور فلسطين في قصائد الشاعر، فلسطين التي شكلها في البشر والأماكن وكل تفصيل وجده الشاعر قبالته، لا يوجد ما لا يذكره بوطنه، وهو المنذورة حياته للبلاد التي تركها قبل تشكل وعيه. لكنها شكلت ذاته وتمثلاته وهي البعيدة الرازحة تحت الاحتلال.
حضور فلسطين في قصائد دحبور لا يجعل من أشعاره غارقة في المحلية، بل هي قصائد عن فلسطين بلسان إنساني مفتوح، فالشاعر لا يعترف بالتقسيمات الجغرافية وغيرها، ولكنه يؤمن بأن الجغرافيا والحالة الخاصة تنعكسان على ما يكتبه الشاعر وتحددان جزءا كبيرا من ملامحه الشعرية.
يقول “الأدب هو الأدب، والتقسيمات السائدة؛ فلسطيني سوري عراقي، هي تسميات مجازية. فعندما أُقبِلُ على مجموعة شعرية لا أقرر سلفاً اختيارها لأن مؤلفها لبناني أو مغربي. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن للبيئة ملامح في الخريطة الشعرية بحيث تمنح بعض الخصوصية هنا أو هناك”.
التزام الشاعر السياسي بقضايا بلده لم يمنعه من الخروج عن ثوب الأيديولوجيا الذي لا يختلف اثنان في أنه خانق للإبداع، وخاصة الشعر الذي لا يعرف حدودا وإلزامات أمامه، الشعر بما هو كائن فني متجاوز للزمن والجغرافيا والأفكار الجامدة، لكن دحبور اليساري كان يرى أنه “من الممكن أن يلتبس الأمر على بعض الشعراء الملتزمين فيكون التورط في التفاصيل السياسية التي لا يحتملها الشاعر، وهنا لا بد من حساسية فنية تستخلص ما هو قابل للحياة خارج المناسبة، أو بعد المناسبة”.
وهذا ما نجح فيه الشاعر فكانت قصائده الملتزمة عالية الحس، خلقت لها رموزها المفتوحة من الذات إلى العالم، وليس العكس.
منجز دحبور الشعري غلبت عليه قصيدة التفعيلة حيث أكثرية قصائد الشاعر من قصائد التفعيلة، لكنه تميز فيها بإيقاع خاص، يمكننا أن نسميه الإيقاع القوي، الذي يقف في منطقة بين الشعر العمودي والشعر الحر، حيث تتميز جملته بسبك متين مشحون بعاطفة منفعلة، هي عاطفة الشاعر الطامح إلى التحرر، تحرره هو وتحرر بلده وشعبه. علاوة على الجهات السياسية نعى الشاعر عدد من المثقفين والكتاب الفلسطينيين والعرب.
يقول الشاعر الفلسطيني غسان زقطان الذي لم يجد ما يعبر به عن رحيل دحبور غير شعر الراحل “الحبيب أحمد، في رحيلك لم أجد ما أقوله ولكنني أعيد خلفك: .. ويا جَمَل المحاملِ: دربنا شوكُ/ وليس، بغير ضرسكَ، يُطحن الشوكُ/ ويا جمل المحامل: دربنا رملٌ../ وأنت المبحر العدّاءْ/ تهجيّناك في كتب القراءة في طفولتنا/ فكنت سفينة الصحراءْ”.
أما الشاعر الأردني عمر شبانة فيقول “أحمد دحبور، خسارة للجميع ‘أبويسار‘ في زمن انحرافات اليسار الشاعر القائل ‘نمشي ونختلف‘. وداعًا، والعزاء لحيفا، لفلسطين وحمص، لسورية. كما قال الشاعر ‘لماذا كلّما وجّهتُ وجهي صوبَ عنوانٍ/ أراني في مكانٍ غير ما دلّت عليه جُملةُ العنوان؟‘ (من ديوانه “جيل الذبيحة” 1999) سؤال يختصر الكثير من رحلة اللجوء والتشرّد في حياة دحبور، وحياة الشعب الفلسطينيّ”.
الناشر والكاتب الفلسطيني سعيد البرغوثي نعى بدوره الراحل قائلا “هكذا تفقد القيثارة واحدا من أوتارها. وتفقد فلسطين، واحدا من منشديها. هكذا تنتهي حكاية الولد الفلسطيني. وداعا أحمد دحبور”.
بدوره نعى الإعلامي والكاتب الفلسطيني زعل أبورقطي صديقه دحبور قائلا “أحمد دحبور تعجز الكلمات عن إعطائه حقه. دحبور حكاية الولد الفلسطيني الذي عاش النكبة والثورة والعودة. وترك لنا مادة شعرية تستحق التدريس. رحل في مدينة رام الله التي أحبها كما حيفا وحمص ودرعا. نودعك اليوم شاعرا كبيرا حمل الهم الفلسطيني في رحلة الشتات وبقي المخيم يسكن وجدانه. أحمد دحبور حكاية لم تنته فصولها بعد”.