علي السوداني
ثمة شعور متعاظم بورطة كنا أوقعنا نفسنا فيها وذهبنا اليها برجلينا وبعقلنا وبقلبنا طائعين مختارين اذ لم يضربنا أحد على يدنا . في هذه الحرثة المبروكة من الأسبوع الفائت ، كانت ليلتنا قد أنتجت مكتوباَ اسمه ” معلقة الضحك العظيم ” وقد أوحينا فيه للناس من بوابة العنونة أن حضّروا بطونكم ومطّوا حلوقكم ، أنتم والذين معكم ، ففي الجعبة الليلة مضحكة عملاقة ما مرت بكم من قبل وأرجح الظن أنها لن تأتيكم من بعد ، حتى صدّقت القوم وآمنت وقرأت وفتشت وبحوشت ونقّبت ، فلم تجد ضحكاَ ولم تتعثر بتنكيت ولا تظريف ولا تمليح ، بل كان المكتوب مسبحة ضخمة من مصائب ومناحات وآهات وآخات وأحّاه وأحّوه ، وحيث لم نضحك ولا أنتم ضحكتم ، فلقد نوينا والكتابة بالنيات ، ان نصنع اللحظة مكتوباَ مدججاَ بضحك وتفكيه وتسعيد ، فزرعنا عينينا بعين الرب العالي الرحيم خالق المسرات والآلاء ، وحملنا الجنطة وولينا الوجه ماشين فوق أرضه ، وكانت أولى الخطوات قد انزرعت على مقربة من حاوية نفايات في حي فقير . كانت الحاوية مائلة صوب يمينها مانحة الناظر مشهد جرو منفوخ تطنطن فوق حلقه المبتسم ، عشيرة ذباب مرحة . بهذا المرأى المروّع ، انثلمت وصلة طين أولى من لوح الضحك المقترح . هجرت المكان وصعدت سلّماَ حجرياَ عالياَ يقطع أنفاسك ويجعلك تلهث كما لو أنك فتى يتمرغل فوق مخدع عرس وقد أنزرعت نصف عشيرتك بباب العش ، تغني وترقص وتدبك وتطلق النيران وتصيح بك ” ها ولك علّوكي ، وين وصلت ، دير بالك اتخجّلنه وتنكّس عكلنه ” وهنا انفصلت وصلة ثانية من طين الضحك . قلت المقهى هي ضالتي لأن فيها جمال زهران ومحمد صلاح وخمسيني من سلالة أبي بريص الذي هو في الحقيقة نمّونة لتمساح محتمل . ثمة لعاب أبيض يتسايل من جانبي حلق جمال . محمد صلاح في غيبوبة مؤقتة وقد أنرسمت فوق وجهه المصفر ، ابتسامة مثل تلك الأبتسامة المطبوعة فوق وجه رجل قرر مواجهة مصيره بهدوء وسلام . وجه التمساح الذي هو ثالثهم ، كان منشغلاَ بنبش أسنانه بقسوة مفرطة . لم يكن يأكل شيئا ولا برهان على أن ثمة دحائس نائمة بين أسنانه لكنه ظل مواظباَ على النبش والبصق . أدرت وجهي عنه وتمنيت من ألله القادر القهار ، أن يهيىء له قطاراَ بطيئاَ يدوس على صدره . طارت وصلة جديدة من لوح المضحكة . يممت وجهي شطر التلفزيون كمن يبحث عن طوق حل . الشاشة الملونة كانت تعرض شاباَ ملامحه قاسية ويريد أن يلج موسوعة غينيس للأرقام القياسية . الشاب القاسي كان من أهل سامراء التي قيل أنها ” سر من رأى ” ومسوغاته لدخول غينيس هي لأن غذاءه المحبب يكمن في التهام العقارب السامة اللادغة . على كل زمن عرض الشريط ، لم يزدرد الولد القوي سوى عقربين صغيرتين جبانتين . كان يأكل وجبهته تتغضن والحاجبان يتقوسان مع ارتعاشة خفيفة تنشهر على الخد الأيمن . لم يبتسم أبداَ. ألمذيع كان مثله . أنا شخصياَ ، كان لدي صديق هندي هو واحد من الذين شاركوا في عمل مجاري قطاع ستّين في مدينة الثورة ببغداد منتصف سبعينيات القرن البائد . صاحبي الهندي أسمه راجي . كانت الكرينات تحفر الأرض فتفر العقارب والحيّات من جحورها ، فيطاردها الفتى راجي فيمسكها مسكة معلم ويقشّرها ويهرسها بين أسنانه ويشيعها نحو معدته الطاحونة . راجي طيب ومن أهل ألله ويرزق على نيّاته . أخبرني مرة أن خاله هو شامي كابور ورجل أخته ، أميتاب وهو من أنصار عبد الحليم حافظ وفي ألبومه صورة مع توفيق الدقن ويحب السمبوسة الحارّة ، وهذا المساء سيذهب لمشاهدة الفلم الهندي ” ولدي ” من على شاشة سينما بابل القائمة بشارع السعدون . راجي ، الهندي الطيب ، كان غادر العراق بعد اتمام واقعة مجاري الثورة . انقطعت أخباره عني ، لكن قادمين من بغداد الى عمَان ، رفضوا الكشف عن أسمائهم ، حلفوا بأغلظ الأيمان ، أن الولد راجي شوهد وهو يقاتل في الشطر الباكستاني من كشمير بغية تطهيرها من نمور ونمرات التاميل . راجي لم يحلم أبدا بموسوعة غينيس . حدوسي تنبؤني بأنني سأعثر على صديقي راجي الحميم ، الأسبوع الجاي . باي