((عادة ننطلق
من العقل
أما باتجاه الجنون
أو باتجاه الأسطورة
أي تعدد المعاني
لهذا السبب
نحتاج لأن نتذكر
أنما يتجدد
الوضوح)).
في هذه القصيدة ( معاناة المعصوم ) يحتفي الشاعر هاشم معتوق بدور العقل الذي يتجه باتجاهين لا ثالث لهما عندما يريد ان يعمل ، اما باتجاه الجنون ، حيث يفقد اتصاله بالواقع المعاش ، ويفتح امامنا باب اللامعقول ، او ان ياخذ طريقا اخر ، وهو طريق المخيلة التي تصور له الاسطورة بناء سويا له معان عديدة يجب اتخاذ احدهما اسلوبا وطريقا في الحياة ، وهو كذلك يفتح طريق اللامعقول ايضا ، ونحن هنا في هذه السطور سنفحص هذا العقل في اتجاهه نحو الاسطورة .
الرمز في الكثير من الاحيان يفهم من قبل المنتج او المتلقي على انه غموض في النص ، فيما ان الغموض ليس معناه الابتعاد عن الوضوح في التعبير عن التجربة الحسية والشعورية والمعنوية ، وانما هو معناه تكثيف الصورة الشعرية من خلال استخدام وسائل كثيرة اهمها او احدها هو استخدام الاىسطورة في نقل التجربة تلك .
الاسطورة في تعريف بسيط لها ، هي : (( تعبير ادبي عن انشطة الانسان القديم الذي لم يكن قد طور بعد اسلوباً للكتابة التاريخية يعينه على تسجيل احداث يومه ، فكانت الاسطورة هي الوعاء الذي وضع فيه خلاصة فكره)). (راجع : الاسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم – د . محمد خليفه حسن احمد – دار الشؤون الثقافية العامة – 1988 – ص 23 ).
كثيرا ما اعجبتني قصة يوسف – كقصة – منذ صغري، عندما كنت استمع اليها بصوت قاريء القرآن، ان كان ذلك في مجالس العزاء الحسينية ، او كان ذلك في مجالس الفاتحة ، حتى بتنا انا واترابي وقتذاك نتفكه بالطريفة التي تذكر: ان شخصا غريبا زار مدينتنا الجنوبية في شهر محرم الحرام (عاشوراء) واندهش من كثرة مجالس العزاء (الحسينية)، اذ كانت اغلب المجالس تلك – وقبل بدء الملا ( قاريء التعزية) بقراءة التعزية – يُتلى فيها القرآن ، وكانت السورة القرآنية التي تُتلى عادة (بواسطة آلة التسجيل) هي سورة يوسف ، وقيل ان هذا الشخص عندما عاد لمدينته سأله معارفه عما رآى في سفرته لمدينتنا ، فقال لهم: ان اهالي المدينة نصبوا مجالس عزاء كثيرة على طفل صغير قد اكله الذئب.(راجع كتابنا : تجليات الاسطورة – قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني – منشور على مواقع الانترنيت).
ثم بدأ جيلنا يختصر القصة على انها قصة طفل ضاع من عائلته و عثروا عليه بعد سنوات.
هذه قصة يوسف التي عرفناها في فترة الصبا ، وهي اسطورة وقصة ، حيث ذكرت في التوراة والتلمود والقران ، فيما راحت قبل الاسلام تتداول في الجزيرة العربية وما حولها كأسطورة تزجى بها مجالس ليالي الصحراء الطويلة.
تذكر القصة القرآنية التي اساسها مذكور في التوراة والتلمود اليهوديتين ، يوسف انه كان صبيا يعيش مع عائلته ، يرى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له ، فيقص حلمه على والده ، فيقول له والده: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا .
لقصة يوسف نكهة خاصة لكل من قرأها في القران بالنسبة للاجيال التي جاءت بعد ورودها فيه ، اما قبل ذلك ، فانا على يقين تام بأنها كانت تجد صدى في نفوس عرب الجزيرة ، او العرب الذين سمعوا بالقصة من خلال التوراة او ( التلمود) التي سطرت فيهما، او سمعوا بملحمة جاجامش السومرية ، وهذه النكهة متأتية مما تقدمه القصة من موتيفات كثيرة تهم الناس ، مثل الحسد ، والغرام ، والحلم ، والمؤامرة ، وغير ذلك من الموتيفات التي حفلت بها الاسطورة / القصة ، وقد ادعى الخوارج ( طائفتي العجاردة والميمونية ) انها ليست من القرآن ، وذلك لان القرآن كان جديا في كل شيء ، وقصة يوسف ضمت قصص الحب والعشق والهيام.
واستخدمت مثل هذه الموتيفات الاسطورية في الشعر ، بطرق عدة ومختلفة ، وفيه – ايضا – يجري تحويلها وتحويرها لتعبر عن مغزى معين ، فراح الشعراء يعيدونها بعد ان ينتجوها ، وهي تختلف عما جاءت به في النص الاصلي .
مهما تكررت موضوعات الشعر المستند على هذه الاسطورة / القصة ، وما ترمز له ، رغم صعوبتها ، يبقى هناك جديدا في الانتاج الشعري ، في الرؤى والصور الشعرية والتناول ، لانها قصة لا تستهلك نفسها ، بل تجدد موضوعاتها في كل يوم .
تقسم القصة حسب تناولها شعريا الى مجموعة من الموتيفات التي يتخذها الشعر الحديث كرموز، حيث ان كل موتيفة تجد نفسها قد لبست لبوس القصيدة المكتملة – لا اقصد من حيث طولها – لان شاعر تلك القصيدة رأى ان هذه الموتيفة كافية لان تخدم غرضه الشعري ، وايضا انه وجد ان القصيدة بهذا الطول كافية لان توصل المعنى الذي رغب الى المتلقي .
يمكن تقسيم الشعر الذي ستتناوله هذه الدراسة الى مجموعة من الاقسام ، وكل قسم مسؤول في تناوله عن واحدة او اكثر من موتيفات القصة الاصلية .
هذه الموضوعات التي ناقشتها في كتابي ( تجليات الاسطورة – قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني ) ما زالت عامرة بين الناس ، تدور بينهم حيث توجد علاقات اجتماعية تربطهم ، مهما كان نوعها ، تفضي في الكثير من الاحيان الى مثل هذه الامور.
إذ تستدعي النصوص الشعرية الى ذاكرة المتلقي العراقي والعربي ايضا ، احوال شعب العراق ( والشعب العربي ) والمآسي التي وقعت عليه منذ الحصار الظالم عام 1991 وحتى يوم كتابة كل قصيدة من هذه القصائد بعد عام 2003 – تستدعي – قصة / اسطورة يوسف ( التوراتية والقرآنية ) وما حدث ليوسف جراء موقف اخوته منه كأساس لمواقف اخرى .
والذاكرة الانسانية هي الاخرى تستدعي هذه القصة / الاسطورة في تجلياتها العديدة التي صيغت بها ، عندما تحدث امور غير صحيحة بين الاخوة والاشقاء ، وحتى الاصدقاء ، ليس فقط العلاقة العدائية ، وانما يستدعيها الحسد الواقع بينهما ، ويستدعيها كذلك وصول هذا الابن الى درجات عليا من الرقي ، فيما اخوته ينزلون الى الحضيض ، وتستدعيها الخيانة الزوجية ، والوقوع في عشق الاخر ، والتآمر عليه ، وكل هذه الاستدعاءات ترمز الى امر ما .
القصة / الاسطورة الاصل تقدم معادلة غير سوية في احد طرفيها شخص قد انصفته هذه القصة / الاسطورة ، وفي الطرف الثاني هناك من يسعى وراء الحضوة والمجد الزائف ، يحوكون المؤامرات الواحدة تلو الاخرى ، ان كانوا افرادا او جماعات ، علهم يستطيعوا الايقاع به.
في هذه الدراسة سنقدم مجموعة من الموتيفات المستلهمة من اسطورة / قصة يوسف واستخدامها كرمز في الشعر العربي .
***
ان اسطورة / قصة يوسف الاصلية – ان كانت في التوراة او التلمود او القرآن – تنبني على ثنائية الشخصية ، هما : يوسف وابيه الذي قص عليه حلمه ، والذي حزن وابيضت عيناه على فقده ، وعلى يوسف والاخوة ، ويوسف والذئب الذي اتهم بافتراسة حيث يتحمل الذئب وزر ذلك ، وبعدها يوسف وامرأة العزيز ، ويوسف والسجينان ، وكل ثنائية من هذه الثنائيات تؤسس موتيفة معينة تبنى عليها القصيدة موضوعاتها ، فترمز القصيدة المعتمدة عليها الى امر ما.
هذا الرأي هو المقدمة التي بدأت بها دراستي (قصةيوسففيالشعرالعربيالحديث … الاستلهاموالدلالات) والتي نشرت في مجلة (الثقافي).