صاحب الامتياز
رئيس التحرير
عبدالرضا الحميد

دغدغة البواطن ثانية

علي السوداني

فأما التقية – لا أقصد الدينية منها فهذه لها عشر دوخات – فهي الخشية والحذر والتدبر والتحسب والتعقّل من اظهار ما استبطنته النفس وآمنت به واعتقدت ، فأن جيء بك مخفوراً مسلسلاً واقعدت او أقعيت بين يدي سلطان جائر سيّاف فسألك عما ترى فيجوز لك ان تقول له : اني وحقك ايها العزيز العادل ، أرى ما ترى واحب ما تحب ولولا سيفك البتار لضاع الملك وضاعت الديار ، على ان تحفظ حقيقة ما تضمر فتشهره عند يوم تغوص فيه جثة السلطان سبع أقدام تحت التراب ، وهذا او بعضه او مثله ، كانت نحل وملل وطوائف وأديان- القس العمّاني ابو سليمان الدبابنة قال ان قوم عيسى ليسوا من أصحابها – قد اتفقت وتصافت حوله ولكل امرىء ما نوى وعزم واجتهد وتوكّل عليه ، وفي التطبيق والتعريف والتفسير والتأويل ثمة من يذهب بالأمر الى باب النفاق والدهن والمداهنة والجبن ، ومسانده ومتكئاته تلمع وتتلألأ في حشد كائنات انسانية عظيمة – قديمة وجديدة – وقفت بوجه السيّاف والغازي وقالت بما تحب وتعتقد وتؤمن ، فتدحرجت رؤوسها وشيلت فوق رماح وجزت أعناقها والتفت حبال غليظات حول رقابها ، فما مالت ولا هانت ولا بركت حتى قطع النفس . أما تطبيقات التقية اليوم وأخبارها ففيها دوخة رأس وخطر مبين لذا اتقينا شرّها وذهبنا واستأنسنا بمملوحاتها وطرائفها ونوادرها في مجمع ناس أدباء يتبعهم غاوون وغاويات ان اجتمعت بهم على سور وليمة دسمة من مكروعات مسكرة ومنقوعات طيبة ومثرودات ساخنات مشبعات فقرأت عليهم ما تيسر تحت يمينك من قصار قصص ولمعات قصائد حتى صاحوا بك : الله الله عليك يا ولد يا خلاق ، واذ سرفنت ردنك ويممت خلقتك شطر منبع ماء تزيح به دهناً ومرقاً وزفراَ من على كفيك ، قالوا بظهرك ما لم يقل في وجهك اتقاء شرك ولسانك وابتغاء ثريدك وطيب خمرك وصنيعك . وكنت مرة ، على غزوة مشغل رسام مشهور صحبة صاحب بيمينه ريشة وبيساره مزروع قلم يفسر ويضيء عماءات وتلغيزات ومطشوشات الأصباغ والأحبار فوق وجه ” الكانفس ” حتى صرنا قدام جدر تتلولح عليها لوحات ومنحوتات الرسام المضيف ، فتكلم صاحبي وأضاء وأفاض وأعجب وتعجب وأنذهل ، واكتفيت أنا بمباوعة الصور وفك الفم نصف فكة لأنتاج ابتسامة رضا وراحة وتثنية حتى ذاب العرض والمعروض عند عتبات قعدة ساهرة ، رننا فيها الكأس بالكأس وكنت انا وصاحبي النويقد ” عرَقيون ” وكان مضيفنا الرسام من اهل الجعة التي هي ماء الشعير الذهبي المصفى الذي يملأ المثانة ويفيّضها فيذهب صاحبها الى مرحاض الدار ويخلفني صحبة صاحبي الذي قال بعيد رابع غيبة من غيبات الرسام : انظر الى تلك المدندلات المجندلات فوق حوائط الديوان ، انها محض شخابيط مستلة من باب الخريط ودفتر الخرابيط . قلت : غضب الله على رأسك وقد انقلبت على الرجل ونحن في مفتتحها نكرع من يمينه ونسرط من شماله . فتح صاحبي باب حلقه وأشرق على ابتسامة طولها ممدود من شحمة الأذن اليمين الى أرنبة الأذن الشمال . في وسط الأدباء الذين يتبعهم الغاوون وهم في كل حانة ومقهى يهيمون ويثرثرون ، ستسمع منهم ما لا يحبون ويعتقدون ولو مكّنك الرب وسلّطك على واحد منهم ، ونزعت عن وجهه عشرين قناعاً وقناعين ، فسوف تجد في منبوشات قاعه وجوانياته ، ما لم تجده من قبل ومن بعد ، وقد شفت هذا في أدباء ومبدعي بلاد وادي الرافدين و النيل و الشام والجزيرة وخليجها ومغارب العرب ومشارقهم ، لكن الرب لم يوفقنا ويأخذ بيدنا – حتى الساعة – كي نرى ان كانت ادباء الأفرنجة تفعل ما نفعل وأغلب الظن الذي بعضه اثم وحرام ، انهم مثلنا ، اذ دعبلتني  ليلة عمّونية باردة ، الى مجلس حان على سوره الضاج ، انزرع الرسام محمد مهر الدين والراوية عبد الستار ناصر والرسام علي الهماشي وامرأة افرنجية اسمها لورا هامبلن ، لها ديوان شعر مطبوع أهدتني منه نسخة ممهورة بختمها ، فطلبت أنا من شيخ ندل الحان ان يسمعنا أغنية البنفسج البديعة محلاة ومجودة بصوت ياس خضر المدهش ، ففعل النادل طائعاً ، وعلى اوشال المغناة المسكرة ، وجهت وجهي صوب لورا ودغدغت فخذها البض وسألتها ان كان بنفسج ياس خضر وطالب القرغولي ومظفر النواب قد اعجبها او أثّر بها ، فصاحت بقوة ووجه مملوح وصلية متصلة من مفردة ” يس ” ثم ردّت الدغدغة بأحسن منها .

Facebook
Twitter