خفايا واسرار من عهد البكر وصدام الحلقة الثانية كيف تحول طارق عزيز من حاقد على حزبه الى حليف لصدام؟

وعن اغتيال حردان التكريتي وناظم كزار قال العلي: موضوع حردان مختلف. شخص شجاع وعسكري قديم وقدير. لم تكن لحردان صلة رسمية بالحزب. كان صديقاً. الواقع ان حردان شارك في أكثر من خطة لتغيير الأنظمة في العراق منذ 1958. عسكري شجاع ومتمرس. كان صدام ينظر إلى هؤلاء عكس نظرتنا إليهم. كنا نقدرهم أما هو فلديه مقياس واحد: من يمكن أن يشكل بديلاً أو خطراً أو قوة اعتراض لا بد من إلغائه. كان حردان بين أول من قتلوا. طبعاً اعفي من منصبه وابعد إلى خارج العراق. طلبوا منه أن يعمل سفيراً في المانيا ولم يقبل. غادر المانيا إلى الكويت فقتلته المخابرات العراقية هناك.
اما ناظم كزار فانه مهندس عراقي يمتاز بذكائه الحاد. بعثي منح لاحقاً رتبة لواء في إطار سياسة توزيع الألقاب التي اعتمدها صدام. استهتر بقواعد المؤسسة العسكرية إلى حد فظيع. أخل بكل الاصول والمراحل والرتب والشروط. أطاح كل شيء. تصور أن علي حسن المجيد كان برتبة نائب ضابط وإذ به يمنحه ذات يوم رتبة فريق ركن ويعينه وزيراً للدفاع. ولك أن تتخيل مشاعر الضباط في الجيش. وهناك حسين كامل الذي كان شرطياً. اعطاه رتبة فريق ركن وعينه وزيراً للدفاع ووزيراً للتصنيع العسكري. أي أنه اعطاه أخطر وزارتين على رغم كونه شبه أمي ويعجز تقريباً عن الكتابة.
< وعزة إبراهيم؟
– انه شخص مدني وحزبي. لم يصل إلى الجامعة. أعرفه معرفة دقيقة فقد كنت مسؤوله الحزبي لأربع سنوات.
< هل صحيح أنه كان بائع ثلج؟
– لا أعرف هذه المسألة، وهي ليست نقصاً خصوصاً في الأحزاب والثورات. عزة إبراهيم من مدينة اسمها الدور تقع بين سامراء وتكريت. منذ البداية انحاز عزة إبراهيم وطه ياسين رمضان إلى صدام.
< وطه ياسين رمضان؟
– كان ضابط صف.
< وطارق عزيز؟
– عندما تسلّمنا السلطة في 1968 لم تكن لطارق عزيز أي علاقة بالحزب على رغم أنه حزبي قديم. وكان طارق في لقاءاته مع بعض رفاقنا يوجه اتهامات وشتائم إلى الحزب. بعد تسلمنا السلطة كان طموح طارق عزيز أن يدعمه أصدقاؤه لاقناع القيادة بتعيينه ملحقاً صحافياً في موسكو. وهناك طلب قدمه طارق إلى وزير الإعلام عبدالله سلوم، وموجود في ملفات الوزارة، لتعيينه في هذا المنصب وقد رفض طلبه. أنا أعرفه منذ 1959 يومها كنا أعضاء في الحلقة الحزبية نفسها. عندما تسلمنا السلطة برزت حاجات الدولة. طارق عزيز صحافي ناجح ومتمرس. صدام عينه رئيساً لتحرير جريدة “الثورة”. اذكر أن الرئيس البكر طلب أن يراني وحدثني على انفراد. قال لي: “أنا لا اثق بطارق عزيز ولا بسياسته ولا بأفكاره وسأطرح غداً في الاجتماع اخراجه من منصبه، وسأطرح اسمك كبديل له إضافة إلى مهامك”. هذا في 1970. حاولت أن اعتذر فأصر. وفي اليوم التالي اخرج طارق من جريدة “الثورة” وتوليت شؤونها. أعاده صدام لاحقاً وعينه في وزارة الإعلام ثم وزيراً للخارجية. شعر طارق بامتنان شديد لصدام الذي أعطاه فرصة الصعود في المواقع الحزبية والرسمية فقد صار عضواً للقيادة القطرية ونائباً لرئيس الوزراء. إنسانياً من الطبيعي أن يكون طارق إلى جانب من منحه الفرص.
< ولطيف نصيف جاسم.
– حزبي قديم وصديق لصدام.
< ربطتك علاقة قوية بالرئيس البكر؟
– نعم، وكنت في البداية من أقرب الناس إليه.
< والتقيت أفراد عائلته لاحقاً، ما قصة مقتل نجله محمد، وهل كان حادث السير مدبراً؟
– محمد هو النجل الثاني للبكر. أولاد البكر امتازوا بأخلاق عالية جداً وابتعدوا عن أي تدخل أو استغلال موقع والدهم للحصول على المال أو النفوذ. ادرك محمد باكراً ان اعطاء صدام حسين فرصة التصرف كما يشاء في الحزب والدولة سيقود البلد إلى كارثة. بدأ محمد بتوجيه انتقادات إلى صدام وراح الجو يتوتر بين الاثنين. ثم تحول الخلاف إلى عداء. لا اريد ذكر أسماء، لكن شخصاً من القريبين والمطلعين روى لي أن محمد سحب مسدسه في القصر الجمهوري واطلق النار وكاد يقتل صدام بعد مشادة بينهما.
ومحمد كان رياضياً وشجاعاً وكان يكرر أمام أفراد العائلة ان صدام لن يقتل إلا على يده و”يجب أن اخلص الشعب العراقي من صدام”. ذات يوم كان محمد مع زوجته وطفليه في السيارة على طريق في شمال بغداد، وفجأة ظهرت شاحنة وضربت سيارته فقتل مع أفراد عائلته.
< تجزم أن الحادث مدبر؟
– لا يختلف اثنان في ذلك.
< وماذا فعل البكر؟
– حطمته الحادثة وكسرت ظهره. لم يفعل شيئاً ربما لتفادي الأسوأ فقد كان صدام سيطر على الماكينة الأمنية.
< وماذا عن برزان التكريتي؟
– شاب بسيط من عائلة فقيرة. انه اخ غير شقيق لصدام. لم يكمل دراسته. عين لاحقاً رئيساً لدائرة المخابرات، وبحكم علاقته بصدام كانت صلاحياته مطلقة. فرض هيمنة المخابرات على دوائر الدولة والحزب في صورة تدريجية إلى أن سيطرت دائرة المخابرات على كل شيء. لم يعد يسمح لوزير أن يعين سائق سيارة من دون موافقة المخابرات، والأمر نفسه بالنسبة إلى المناقلات. هيمنت المخابرات على الحزب والدولة والشعب. قامت دولة المخابرات والخوف والرعب. دمروا العلاقات الإنسانية. صار الاخ يشك بأخيه والزوج بزوجته. حصلت وشايات داخل الأسر وتسببت بإعدامات. صار كل شخص يعتقد ان الآخر عميل للمخابرات. اشاعوا الشك والرعب. وهذه الحالة مستمرة في العراق.
بلا عاطفة
< لنعد إلى ناظم كزار؟
– كزار ذكي إلى درجة غير عادية وشجاع جداً ودموي لا يعرف الخوف ولا التردد. عندما تسلمنا السلطة لم تكن لدينا أي رغبة في اعطاء فرصة لعدد من الحزبيين الذين ارتبطت اسماؤهم بالجرائم التي ارتكبت في 1963 وفي طليعتهم كزار. في تلك المرحلة كان كزار في لجنة للتحقيق مع الشيوعيين. فوجئنا بتعيين الرجل مديراً للأمن العام، فحصل استياء في صفوف الحزبيين. اضطر صدام لعقد ندوة للكادر الحزبي كنت مشاركاً فيها. اعترض الحزبيون على التعيين. استمع صدام ثم أجاب: أنا اتفق مع اعتراضاتكم ولكن سأعطيكم وجهة نظري. نحن لدينا دولة اليوم وبعض دوائرها يقتضي وجود مختصين. هذه تحتاج مهندساً وتلك تحتاج اقتصادياً. وعندما دوائر أمن تحتاج إلى متخصصين. ليس هناك في المجتمع العراقي من هو مختص بمسائل الأمن أكثر من ناظم كزار. ذاكرته قوية ويعمل بلا عاطفة. لديه مؤهلات لا يملكها أحد ونحن مضطرون إلى الافادة منها.
عين ناظم كزار ووسع دائرة الأمن العام. وشكل مكتباً للاشراف على الأمن والمخابرات معاً يديره صدام حسين. طبعاً كان كزار حزبياً ملتزماً إلى أبعد الحدود.
راح كزار يراقب الأحداث ووجد أن تجربة الحزب بدأت تلتوي لمصلحة البكر وصدام وبدأ يخطط للتخلص من الاثنين.
< ماذا كانت خطته؟
– غادر البكر إلى أحد البلدان الاشتراكية وصار البلد في عهدة صدام خلال غيابه. فكر كزار أنه حين يعود البكر سيذهب صدام لاستقباله ومعه عدد من كبار المسؤولين في الدولة والحزب. اعتبر المناسبة فرصة للتخلص من الاثنين معاً. حدد موعد وصول البكر وتم ابلاغ المسؤولين. طبعاً كزار مسؤول عن تدابير الأمن. قبل ساعتين أو ثلاث من موعد وصول البكر كان هناك موعد رتبه كزار. قال لبعض المسؤولين إن الأمن العام افتتح دائرة جديدة للأمن وزودها تكنولوجيا حديثة واريدكم أن تطلعوا عليها. وكان بين المدعوين حماد شهاب وزير الدفاع وسعدون غيدان وزير الداخلية، إضافة إلى آخرين. عندما وصلوا إلى مقر الأمن العام اعتقلهم بانتظار تنفيذ الخطة وكان وزع رشاشات على سطح المبنى في المطار ومواقع أخرى.
هنا حصل خطأ ما غيّر كل الحسابات. تأخر البكر في الوصول. وتضاربت الروايات لاحقاً. بينهم من قال إن رئيس إحدى الدول أصر على تكريمه بضع ساعات إضافية. وثمة من قال إن إحدى المخابرات الشرقية عرفت الخطة فطلبت من البكر أن يؤجل قليلاً موعد وصوله إلى بغداد. وهناك من قال إن مسائل فنية في الطائرة ارغمت البكر على تأخير الاقلاع. لم يصل البكر في الموعد المحدد، فارتبك ناظم كزار. تخوف أن تكون الخطة كشفت. وحتى ولو لم تكتشف فإن صدام الذي توجه إلى المطار سيعرف لاحقاً أن كزار اعتقل وزيري الدفاع والداخلية. اختار في النهاية الهرب مع مجموعته مصطحباً المحتجزين معه. اتجه نحو الحدود الإيرانية وطارده الجيش فاقترح عبر الجهاز لقاء تفاهم في بيت عبدالخالق السامرائي.
رُفض الطلب والقي القبض على كزار بعدما قتل حماد شهاب وجرح سعدون غيدان. جيء به إلى القصر. هنا يقال إن البكر كان يريد اجراء تحقيق مع كزار في حين كان صدام يدفع باتجاه عدم اجراء تحقيق بحجة أن لا جدوى من ذلك. واعدم كزار سريعاً.
هنا ظهر تفسير مفاده أن المطار كان مسرحاً لخطتين: الأولى تورط فيها كزار مع صدام وكان الغرض منها التخلص من البكر. والثانية خطة كزار نفسه لاستغلال المناسبة للتخلص من الاثنين. وسبب هذا التفسير الذي ساد الأوساط الحزبية ان كزار كان مقرباً جداً من صدام.

ارغام “الأب القائد”
< ما قصة المؤامرة التي قال صدام حسين انه اكتشفها بعد تسلّمه السلطة في 17 تموز 1979؟
– وقّعت سورية والعراق على ميثاق وحدوي. كان هناك تفاهم على ان يكون البكر رئيس دولة الوحدة وان يكون الرئيس حافظ الاسد نائباً له. فجأة وجد صدام نفسه مهدداً بالخروج من اللعبة واحباط ما خطط له. الخطوة أوغرت صدره ضد من ساروا في مشروع الوحدة.

هنا يجب ان نتذكّر ان صدام حسين الذي كان شاباً لدى تسلّم الحزب السلطة اختار التحالف مع البكر بانتظار ان تجيء الساعة المناسبة للقفز الى السلطة. استظل بالبكر واحتمى به وراح يبني مشروعه الشخصي في ظل من كان يسميه “الأب القائد”. في 1968 لم يكن صدام جاهزاً. كان شاباً وتنقصه التجربة ولم يكن صاحب رصيد في الحزب او الشارع في حين كان وضع البكر مختلفاً.

نفّذ صدام خطة أعدها بعناية للهيمنة على كل مواقع القرار في الحزب والاجهزة الامنية والاعلام. طوّق البكر من كل الجهات بما في ذلك جهاز امن رئاسة الجمهورية. وكانت خطته تقضي بفصل البكر عن قاعدته العسكرية والشعبية. عندما اطمأن الى نضج الظروف ضغط على البكر للاستقالة.

< هل تعتقد انه أرغمه على الاستقالة؟
– لا شك في هذه المسألة. صحيح انني كنت خارج الهيئات القيادية للحزب لكن كانت لي صداقات عميقة داخل هذه الهيئات وداخل الدولة.

< نريد تأكيداً محدداً؟
– لا أريد الخوض في الاسماء لكنني اقول انني التقيت عدداً من افراد عائلة البكر والمقرّبين منه. اجمع هؤلاء على ان صدام اجبر البكر على التنازل. ولم يكن امام البكر خيار آخر. عقد لقاء ثنائي بين البكر وصدام وطُرحت خلاله المسألة واتفقا على عقد لقاء للقيادة في اليوم التالي لاعلان الخطوة.

Facebook
Twitter