وهذه ليلة من الليالي التي لم يبقَ في أوشالها منزع صبرٍ وتصبّرٍ، وقد زرَعَنا الربُّ الكريم منبَتَ ناسٍ إن عاد واحدُهم داره أو دار جاره والعيال، ولم يجدَ في قدْرهِ مرَقاً، وفي ضرعهِ حليباً، شالَ سيفهُ ونزل إلى الشارع صائحاً مزلزلاً مجلجلاً متشيّماً بالأنصار وبالمريدين وبالمعذّبين عليها، أن اتبعوني واتّبعوني وعاجلوني، فلا قيامةَ لكم من بعدي ولا قائمة ولا خبز ولا زرع، حتى تضجُّ بنا ونضجُّ بها ، فتتّسعُ ما حطّت عليها قدمٌ وساعد.
سأستوي غداً وهو أقرب للناطرين المقهورين، من خضرة ورائد الرقبة، على عرشٍ ضخمٍ عالٍ نابتٍ لا تهزّهُ الريح حتى وإن كانت ريحَ صرصرٍ قالعة تالفة. سأرسخُ بموضعٍ من بغدادَ الأبدية، بين رصافتها وجسرها والماء وما شالت الأكلاك والدواب، فأصيحُ على عاملنا بكرخها فيجيبنا أن اذهب وحشدك فقاتلا إنّا معك ذاهبون.
سأفرشُ تحتي فرشةً من شوكٍ وعاقولٍ وصبّارٍ. سأُركزُ حجارةً ناتئة بسرّة بساطيَ حتى لا تأخذني نومةٌ ولا تدغدغني راحة. سأكسرُ الكأسَ والجرةَ وأذرُّ الخميرةَ المخمّرةَ، فتراني الناسُ من جهاتي الأربع وقد صرتُ وصار الذين معي من شدَدَة الأحزمة والأنطقة والعقلات، من نوع السكارى وما هم بسكارى.
سأُعيدُ زعيمَ القبيلة والفخذ إلى بطن الديوان، وعالي العمامة إلى منبر مسجدهِ، فإن جنحوا لها سنجنح، وإن ركبوا الرؤوس عناداً وجهلاً وضلالةً، سنركبها بالحقّ وبالعدل، وسنسوّرههم بجيشٍ أوّلهُ راسخ تحت الشجرة المبروكة التي نستظلُّ، وآخرهُ عند مهبط خشم أخيرهم.
سنخلعُ عباءتنا على مغرب الدار ومشرقها، ونقفُ على طولنا الذي ليس فيه حدبة ظهرٍ أو خنخنة خشمٍ، فإن مرّتْ بسقفنا غيمةٌ إلهيةٌ سمينة، ركضنا وشمّرنا الأردان والسواعد، وحملنا الفؤوس والرفوش والمحاريث الثقيلة التي نجرّها جرّاً، وتجرّها الثيران وما تيسّر من دواب على أربعةٍ تمشي.
سنطشّ الأرض ببذرات يابسات وبمشتولات غضّات، فإن أمطرتْ فالمناجل مستلة بأيمان الشِداد، وصوامع الطين والحجر مفتوحة أبوابها، وإنْ نفخها العالي القدير العادل، نفخة خير وبركة وسارتْ حتى حطّت بباب عبادان وما حولها، شكرناه وبِسْنا اليد وجهاً وقفا، وزففنا غيمتهُ بالهلاهل وبالتكبيرات وبالصلوات المستجابات، وقلنا لها جهراً وهمساً وبما بين الضلوع، إنّ تَمركِ ورزّكِ ولوزك وزيتونك وتينك وعنبك والمرعى والمهوى، لنا حيث تهطلين وتمطرين.
سنبني مدينةً فاضلةً، فيها جامعٌ يؤذّن وكنيسةٌ ترتّل، وصوامع نسكٍ وتطهّر وتعبّدٍ وتأمّلٍ للخلق أجمعين. سنبلّطُ للرعية صراطاً سهلةً، لا منبوشات فتنة في ضلعها، ولا منتوفات ضلالةٍ في حشاها. صوموا وصلّوا وحجّوا إن كان الأمر تحت اليمين المستطاع. أخرجوا من رزقكم الحلال ثلمةً واجعلوها حقّاً للسائل والعاجز والمحروم.
بخواصر مدينتنا وثنياتها، دار علم وفنّ وأدب، ومطعم ودار موسيقى وحانة ومقهى وسينما ومنحتْ. سأرقبكم من فوق سطح داري بعينٍ تكادُ لا تنام من قوة الله. إنَّ أحسنكم عندي، هو أحسنكمْ عند الناس والزرع وما دبَّ عليها وما انتشر.
- info@alarabiya-news.com