لثلاث مرات تم تأجيل الاحصاء السكاني في العراق بسبب التوترات التي يسببها الصراع على المناطق المتنازع عليها في الشمال، لكن على خلاف فوضى العراق البيروقراطية، فان التأجيل هذه المرة قد ينقذ حياة الناس من احتمالية عودة العنف او الحرب الاهلية، كما يقول البروفيسور جوست هلترمان خبير الشؤون العراقية في مجموعة الأزمة الدولية.والتعداد السكاني، الذي يراه هلترمان، احد الضحايا الصامتين لشلل العراق السياسي، ففي الثالث من تشرين اول، وللمرة الثالثة منذ عام 2007، يتم تأجيل التعداد السكاني. والسبب الرئيسي لآخر تأجيل كَان قلق بعض السياسيين العراقيين، وبعض الدول مثل تركيا والولايات المتحدة من ان المضي بإحصاء السكان الآن قد يتسبب بإثارة الإضطراب.ويعتقد الخبير في الشؤون العراقية انه عند الاخذ بنظر الاعتبار الترتيب الحالي لاحصاء السكان، فان التأخير لن يكون بالامر السيء. وبالرغم من كل شيء، فانه يجب على الحكومة الانتقالية ان تدرس بجدية تأخير الاحصاء السكاني لفترة ابعد، لحين ان تقوم الحكومة الجديدة بتصحيح عيوب الحكومة القديمة وتحولها الى ما يمكن ان يكون مفيدا للبلاد كلها.ويتأهب الاحصاء السكاني للعب دور حاسم في تطوير البلاد، فالبيانات والمعلومات ستساعد في رسم المناطق الانتخابية وتخصيص الاموال وتسليط الضوء على النمو السكاني المستقبلي، وفي خطط التعليم والصحة العامة والاسكان والنقل والعناصر الاخرى الضرورية في دولة مُنظمة جيدا، و خصوصا في العراق، الذي شهد عدة إنطلاقات فاشلة في إعادة البناء بعد إحتلال عام 2003. وامتلاك بيانات اجتماعية إقتصادية دقيقة سيكون أمرا لا غنى عن للتخطيط الإقتصادي السليم.لكن هناك سببا للاعتقاد بأَن هذا الإحصاء، كما هو مصمم حالياً، سيتسبب في قيام استقطابات بدلا من توحيد المجتمعِ العراقيِ. وتكمن المشكلة في السؤال الذي سيطلب من العراقيين تحديد انتمائهم العرقي، والذي يهدف الى ايضاح حجم المجموعات الاثنية المختلفة في العراق. وبالرغم من ان مثل هذا السؤال سيوفر بلاشك معلومات مثيرة للأكاديميين والمحللين، لكنه لا يصب في المصلحة الوطنية ويعرض للخطر حالة عدم الاستقرار في البعض من نقاط العراق الساخنة الأكثر حساسية.ومن الارجح ان السؤال عن الاثنية (القومية) يمكنه ان يتسبب، على وجه خاص، بتأجيج العواطف في المناطق التي يقول الزعماء الاكراد انهم يريدون ضمها الى اقليم كردستان في شمال العراق. واضافة للاكراد، فان هذه المناطق تُعتبر وطنا لمجموعة متنوعة من السكان من العرب والتركمان والاقليات الاصغر حجما والتي انخرطت في مواجهة قوية للتطلعات الكردية،تُخفي احتمال حدوث نزاع عنيف.وقد استدعت عدة حوادث في هذه المناطق المتنازع عليها خلال السنتين الماضيتين ان يقوم القادةَ الأميركيون بتَأسيس نقاط تفتيش عسكرية مشتركة على طول مايسمى بخط التماس الذي يفصل القوات المسلحة العراقية عن الحراس الأكراد المرتبطين بالاقليم. وإيجاد حل تفاوضي للتنازع الشديد على هذه المناطق، ومنها مدينة كركوك التي تحتل الصدارة، سيكون امرا حاسما لمستقبل العراق.وكل الاطراف ترى ان السؤال حول الاثنية في التعداد السكاني هو استفتاء اولي على وضع هذه المناطق. ويفترض كلُ شخص ان الاكراد في هذه المناطق سيصوتون لصالح الانضمام لكردستان، في حين تصوت الاغلبية الواسعة من غير الاكراد بالضد. وإذا كان السكان في منطقة يُفتَرضْ انها ذات اغلبية كردية، فان الحجة السياسية لربط هذه المنطقة بمنطقة كردستان ستتقوى كثيراً بغض النظر عن رغبات سكان المنطقةَ من غير الاكراد، مهما كان حجمهم. وإحصاء السكان، بكلمة أخرى، سيزيد من الاندفاع نحو حل غير تفاوضي لوضع هذه المناطق عبر طريق عرقي، انه استفتاء لعبة الصفر (لن يكون للخاسر اي شيء). والاستمرار بابقاء السؤال عن الاثنية في الاستفتاء على حاله سيؤدي، بحكم المؤكد تقريبا، الى مقاطعة عربية تركمانية بالاضافة الى احتجاجات شعبية في المناطق المتنازع عليها ومن المحتمل ان تتوج بالعنف.وقد دعم البعض من المحللين الأكثر دراية بالتوترات على طول خط التماس العربيِ الكرديِ جهود رفع سؤال الإنتماء العرقي عند إحصاء السكان. وترى إيما سكاي، التي خَدمت لثلاث سنوات كاحد كبار المستشارين السياسيين للجنرال راي أوديرنو القائد الأميركي السابق في العراق، ان سؤال المواطنين في كركوك والمناطق المتنازع عليها الأخرى (عن عرقهم) سيزيد الإنقسامات بين السكان ليس الا. وتقول “ان العديد من الناس (من مختلف الاثنيات) تزاوجوا على مدى أجيال وهم يتحدثون بلغات بعضهم البعض.ان تضمين سؤال الإنتماء العرقي في إحصاء السكان، كما يقول هلترمان في تحليل معمق نشرته الفورين بوليسي، سيجبر الناس على تعريف انفسهم بمصطلحات ضيقة في وقت لدى كل منهم سمات تختلف في اغلب الاحيان عن هويتهم. وانك بهذا السؤال تجعل الناس يُعَرِّفون انفسهم بطريقة ليست ذات فائدة في عملية الاحصاء في وقت هناك حاجة ملحة جدا للتركيز على القضايا التي تجمع الناس سوية”.وإحصاء السكان في العراق تم تصميمه والاستعداد له وتوفير لوازمه من قبل وزارة التخطيط على ان يُنَفذْ بواسطة الملاكات التعليمية، التي استلمت هي والعناصر الامنية استمارة الاحصاء السكاني لملئها بشكل منفرد وقريبا سَيُعطونَ استمارات لعموم السكان. ومن الواضح انه تم تشغيل القطار، لكن الوقت على اية حال، ليس متأخرا تماما لابطاء حركة القطار او وضعه في مسار مختلف قليلا.وكخطوة اولى فان على رئيس وزراء الحكومة الانتقالية نوري المالكي ان يؤخر الاحصاء السكاني حتى تتسلم الحكومة الجديدة مهامها خشية انفجار النزاعات العرقية اثناء مفاوضات تشكيل الحكومة.ويرى هلترمان ان التوترات التي يسببها الاحصاء السكاني قد تمثل نقطة قطع لقائمة اياد علاوي الذي ربحت قائمته اكثرية المقاعد في البرلمان الجديد، والعديد من أعضائها الذين جاءوا بالضبط من المناطق المتنازع عليها. و”العراقية” أو على الأقل عدد هام من زعمائها البارزين قد يديرون ظهرهم بالكامل للعملية السياسية برمتها.وإذا ما فشل اقتراح الأُمم المتحدة بايجاد حل وسط حول سؤال الإنتماء العرقي، والذي هو حاليا قَيد المناقشة من قبل القادة السياسيين العراقيين، فان على حكومة المالكي حذف ذلك السؤال من إحصاء السكان. ويجب كذلك حذف السؤال الذي يستفهم عن اللغة الام للسكان. وبالرغم من أن هذا السؤال يمكن أن يوفر معلومات مفيدةَ لنظام التعليم، فانه أيضا سيُترجم بان له نفس المنطق العرقي وهكذا سيكون له التأثير الخبيث نفسه.ان تحدي الشروع بمفاوضات حول كركوك والمناطق المتَنازع عليها الأخرى الذي ينتج عنه حالة استقرار متينة وسلمية ونهائية ما زال قائما. والزعماء الأكراد كَانوا على صواب في عدم صبرهم على قلة التقدم. وعلى الحكومة العراقية الجديدة، مدعومة بالكامل من المجموعة الدولية ومن الأُمم المتحدة كطرف يقدم التسهيلات، ان تقدم التزاما قويا ببدء المباحثات (بعد تشكيلها). وأي استفتاء عام، كما يستَخلص من الدستور العراقيِ، يجب أَنْ يُجرى مستندا فقط الى اتفاق بين القادة السياسيين. والطرق المختصرة التي تُقطع مسافاتها بالاثنية فقط، والتي تروج لها الصيغة الحالية لاحصاء السكان ستقوض هذا الجهد فقط – وتعرض للخطر استقرار العراق الهش.