صبيح عفوان
لايمكن للسرد ان يمارس وظيفته الطبيعية وهي جذب القارئ لمتخفياته الوظيفية التي كتب من اجلها دون الاشتغال في نمط النسق اللاشعوري الذي يشكل جدلا مع الواقع ويثير السؤال ، كونه مكبوتا لايسمح له بالانفلات الى العالم الخارجي الملغوم بالمقاومات الشديدة دون تعديل ويشكل عبوره غير المحرف نغمة ناشزة لاتسمح لانساق الشعور ومقاوماته ان تذهب بهذا الطارئ الى معطف الكبت من جديد.
لكن في السرد تتقنع هذه السيرورة كونها تحتل متخفيا استثمرته انا الكاتب لتصعيده في اللغة، وهذه المماحكة عبر السرد تمنح القارئ اللذة عبر اقتفاء اثر المكبوت والمتخفي في بنيته لتكون المشاركة اللذوية بنموذجها المصعد واحدة من مهمات الكاتب/ القارئ.
ونمط السرد لقاصات بلاد الشام الذي نروم تقصي معطياته عبر ملمح (الهفوات، احلام اليقظة، والرغبة في الالتذاذ) مع مجموعة انماط سلوكية معينة ومحددة. وهذه المواقف مرتبطة بنشاطات اجتماعية تتغير تبعا للموقف اي وفق معطيات ومحاور العالم الخارجي ومتغيراته ومدى تأثيره على المنظومات النفسية حيث ردود الافعال الدينامية التي تبرهن على علاقة اللاشعور بالعالم الخارجي المؤطر جدا ومشغل المقاومات اللاشعورية وحيلها، هذا المحور الذي تستطيع من خلاله القاصة الولوج الى هذا العالم الغامض والتلذذ عبر المتخيل بمعطياته.
احمر الشفاه لموعد الخمس دقائق
تستظل الشخصية في قصة (احمر الشفاه لموعد الخمس دقائق) للقاصة ماجدولين الرفاعي اطارا محوره الشرقي من دون القفز والذوبان في اروقة اللذة التي تشكل تضادا مع الاعراف الاجتماعية اذ يبدو السرد من الوهلة الاولى وكأنه لا يحمل بي طياته اية سيرورة من الممكن ان تكون ممثلة للمتخيل نتيجة تماسكه واشتغاله مماثلا مع الواقع النفسي الصارم جدا لكن حين نتقصى اسراره عبر اللغة نتعثر بكنوز الرغبة الخفية التي لا تنفك عن ملاحقة الانا للبحث عن مترصد لذوي حتى لو كان عبر المخيلة.
واضاء لنا موعد الخمس الجوهر المستتر والغامض للشخصية لكن بشكل بسيط متباعد ينطوي خلف التحولات المتعددة التي يفترض ان تستثمر الخارج بكل طاقتها وخاصة المكبوت منه. لكن التحول في الشخصية له اصوله لانه يستوي مع رؤية القاصة التي تبدو من خلال ذلك منغمسة ومنسجمة مع هذا النوع من الخطاب لكن العفوية التي مارستها الشخصية ودخلت من خلالها الى التهويم اللاشعوري الذي تشكل وفق رؤية القاصة بموعد الخميس والذي منحنا فرصة التلصص عبر بوابة احلام اليقظة لكي نتلمس بعض السيرورات التي انبثقت الى سطح السرد ( على اختيار ملابس بالوان هادئة كي لا تصعقه الالوان وكنت واثقة انه سيعجب بي وباناقتي ويمتدحني).
هذا المتخيل الذي من الممكن ان يعتبر رابطا دلاليا لا شعوريا انطلق بقوة باتجاه الخارج ولكن القاصة حرفته بانساق اللغة الشعورية لانها تمارس الرقابة الشديدة كون المكنونات المتخفية للشخصية وليدة مستويات اللاشعور لديها ( انه رجل المهمات الصعبة وكل الامور متعلقة بموافقته كما انه من النوع الذي لا يعقد الامور ولا يشعر بالبأس فكل مشكلة ولها حل.. الحياة هكذا اخذ وعطاء)
اذن موعد الخمس فكك اطار المقاومات مستثمرا تحريفاتها ليتخفى في نسق السرد وبالتالي يكتنف النوايا الرغبية التي كانت الشخصية تتهيا لتحقيق الجذب مع اللذة في ظلها..اذن هذا النوع من السرد يهمس ولا يطلق متخفياته الاخرى المكتنزة بالمتخيل لنكتشف ان العاطفة لدى الشخصية طرية غير مكتملة تختلط مع الموضوع وتستدعيه عبر احلام اليقظة مع ملاحظة ان المصادر الاجتماعية لدى الشخصية تبقى صادة وليست خلاقة اي انها لاتذوب في محيطها الا كابتة للعداء تجاهه( تعمدت القيام بزيارات كثيرة لاقاربها ومعارفها من اجل التحدث عن اهميتها وعن اللقاء المنتظر وكانت تتلذذ بنظرات الحسد والغيرة في عيون من حولها) وهذا التضاد وتأكيد محاور النرجسية مايوحي بالقطيعة مع هذا العالم الذي يحتاج الى تأكيد الذات.
اذن الرغبة الاستحواذية تأطرت بالنسيج الاجتماعي وكانت تفكك اللغة وبدائلها لانها كانت تعتمد الكبت انموذجا.
ان القاصة نجحت في اختيار معالم السرد ونموذج البطل كي تحقق الكشف عما هو مستتر عبر المقاومات الاكثر صلادة وكشفت لنا محاوره الخفية التي تنجذب الى التهويم والعداء كونهما مبررين تعيش البطلة في كنفهما.
كما كشفت لنا عن ان الشخصية تعيش في الواقع بنسيج الخيال والعداء. وبهذا المحور الثنائي الذي يؤكد على ان هنالك ارضية استيهامية لذوية قد تنغمس البطلة فيها وهي الارضية التي يكون الاحباط والشعور بالدونية نموذجا لها.
اذن الشخصية تنتمي الى محاور الشخصية العصابية بشكلها الصريح التي تلتقي في نهاية السرد بفارس احلامها( تسارعت دقات قلبها فرحا لكنها كادت ان تتوقف عند رؤيتها للرجل اخيرا في مكتبه، كرسيه اصغر من حجمه بكثيرن وواضح انه حشر نفسه في الكرسي حشرا مما كور بطنه بشكل زائد عن الحد) ولو لم تكن الشخصية بهذا الوصف لظلت عبر احلام اليقظة تزاول طيرانها في احضان هذا الفارس الذي شكلت مشاهدته مستوى نفسيا سوداويا جديدا.
منفردة
يشكل الرمز واحدا من المحاور المهمة استثمرته القاصة هنادي زحلوط في قصتها (منفردة) لتمنح اسرد اشتغالا على ثنائية الحلم/الواقع ، الرغبة/ الارادة، ثنائية النكوص الى السوداوية/ التفاؤل. وهذا الاشتغال يمنح متلقيه فرصة تداول العتمة/ الضوء كونهما رمزين للحياة ومفاصلها عبر علاقة الفرد السوية او الناكصة الى المكبوت ويمثلان جدلية العلاقة بين الانا والعالم الخارجي.
ويكشف لنا هذا السرد ايضا بنية اللذة كونها بؤرة الجذب في هذا الصراع، حيث تقول البطلة: ( انه ينتظرني … ) حيث يتمثل الاخر بالمحفز الذي لاجله خاضت الشخصية هذا الصراع. وعبر التهويم الذي تنوع في السرد يستطيع القارئ ان يتحسس هذا الصراع ارادة بكل دوافعها ( تعرف انه يوجد كرسي ضغير هنا لكن الجلوس عليه يعني الرضا بهذا الظلام كله) ومن هنا نستطيع القول ان الشخصية مشدودة الى الداخل عبر نسيج الاحباط الذي تحققه الافكار المرضية التي جعلت الانا قلقة بين طرفي الصراع (الداخل والخارج) بجدليته الغامضة وتعبيره عن الثورة العارمة التي يجب ان تتمسك بها المرأة ضد اية فكرة قد تقودها الى الاستسلام لافكار الظلام.
تقدم لنا القاصة الصراع في اعلى مستوياته نتيجة البحث عن ملمح ضوء او مساعدة خارجية للخلاص من هذا المنحى السوداوي والانتشار في ملامح العالم الخارجي، واعتمدت القاصة في سردها صناعة الحلم نموذجا لانساقه لينهض بدلالات اللاشعور من كونها سيرورات فاعلة تمارس الجذب العميق وبدلالات السرد متخفيا لاتستطيع الشخصية تصفحه الا عبر اليات الثقافة وتمركزها الفعال.
وتمنحنا القاصة ايضا فرصة التأمل عبر الرمز الذي تمثله دالة العتمة المفضية الى الافكار المنسحبة الى الظلام والتي يعاني الكثير من بني الانسان منها، هذا الصراع الذي يعتمد اللذة في اطارها الحضاري والتجوال في نسقه المتعدد: المعنى ، الادب ، الجسد ، الحرية ، الفعل الانساني.
وتمثل دالة العتمة في المصعد المتوقف نموذج الثقافة المنقوصة التي تنجذب لذاتيتها فقط وان دالة الضوء تمثل انفتاح الانا على الخارج بكل تشكيلات الجمال فيه وتحرك محاور النرجسية التي تمثلها العتمة. تحاول القاصة تثوير مفهوم العصاب عبر هذا الصراع أي ان البطلة في السرد تمثل الى حد ما شخصية القاصة وطموحاتها للخروج من بنى المكبوت وسيرورات اللاشعورية لكي يتسنى لها الوقوف في رمز الحضارة والنماء الثقافي: الضوء.
ماجدولين الرفاعي
فرحها كبير بما يكفي لتخبر كلَّ من حولها عن موعدها الرائع، لم تكن أتتوقع أن تتحقق أمنيتها وأنها ستقابله أخيراً.
تخيلت كثيراً ترى كيف سيكون شكلُ مكتبه ؟ لابد أنه فاخر جداً فالحديث يدور هنا عن مبالغ يتقاضاها مقابل كل مشروع يضع توقيعه عليه .
إذاً لا اقل من أن يهتم بمكتبه.
راحت ترتب الخطط لشراء ملابس تناسب لقاءً كهذا، سأضع أحمر شفاه خفيف فالتبرج الزائد في أماكن كتلك غير مناسب وباعتبار اللقاء في فترة ما قبل الظهر عليَّ اختيار ملابس بألوان هادئة كي لا تصعقه الألوان وكنتُ واثقة أنه سيعجب بي وبأناقتي و يمتدحني- رددت في نفسها تلك العبارات بثقة-
إنه رجل المهمات الصعبة فكل الأمور متعلقة بموافقته كما أنه من النوع الذي لا يعقد الأمور ولا يشعر باليأس فكل مشكلة عنده ولها حل.. الحياة هكذا أخذ وعطاء .
تعمدت القيام بزيارات كثيرة لأقاربها ومعارفها من أجل التحدث عن أهميتها وعن اللقاء المنتظر وكانت تلذذ بنظرات الغيرة والحسد في عيون من حولها، لابد أنهم يتهامسون فيما بينهم ويتمنون أن يحصلوا على نفس الفرصة وتضحك من غبائهم و هم يظنون أن تلك اللقاءات الهامة في متناول الجميع ؟
وأجابت على تساؤل صديقتها عبر الهاتف:
ولولا أنني مقربة للغاية من صديقه لما سنحت لي فرصة اللقاء النادرة تلك.
نعم لدي موعد معه… …
قالتها بزهو وتعال
وسوف تحظى بالوظيفة التي طال انتظارها، فقد طمأنها قريبها فعلاقته به قوية ويسهران معا كل ليلة.
أرفقت البطاقة التي ستقدمها له بهدية من النوع الذي يقال عنه ( ما خف حمله وغلا ثمنه ) لأنه.. لا يقبل الرشوة أبدا لكنه يقبل الهدية ويردد ( سيدنا محمد قبل الهدية )
وذكر لها احدهم انه من اجل مناقصة يردها أن ترسو عليه اضطر لإهدائه سيارة فاخرة ليست له إنما لابنه المراهق الذي تشهد له المدينة كلها ببراعته في استخدام المكابح
لكنها لا تستطيع إحضار هدية كتلك فهي تبحث عن وظيفة لن يزيد راتبها عن ثمن الهدية التي أحضرتها
في مثل تلك اللقاءات الهامة لابد من حجز موعد مسبق وقد اتصلت بمكتبه وأخبرتهم أنها فلانة من طرف فلان ورد مدير مكتبه الفظ في جوابه بأنه سوف يحدد لها موعداً ويتصل بها، لم يطل انتظارها فقد اختار يوم الاثنين الساعة الثانية عشرة ظهراً.
أي بعد يومين فقط وهذه فترة كافية لتجهيز نفسها بما يليق لمقابلة هذا الرجل المهم وفرصة للتدرب على العبارات التي ستقولها وفكرت بأنه من الأنسب ألا تذهب وحدها فقد يطول وقت وجودها معه وتعرِّض نفسها للأقاويل، اتصلت بصديقتها وطلبت منها مرافقتها ودون تردد وافقت فقد أعطتها.. هي أيضاً.. فرصة لا تعوض.
لم تتأخر وأمام مكتبه كانت قد وصلت قبل الموعد بخمس دقائق، استقبلها مدير مكتبه بعجرفة واضحة وأشار لها أن تجلس بينما طلب من رجل كان دوره قبلها أن يدخل لمقابلته.
هواجس كبيرة اعترتها هل غيروا الموعد ؟ لابد أنَّ هذا الرجل سيعطيه شيئا ويخرج قالت لنفسها حتى تبدد الهواجس التي تسلسلت إلى قلبها وفي الثانية عشرة تماماً خرج الرجل وطلب منها مدير المكتب الدخول.
تسارعت دقات قلبها فرحاً لكنها كادت أن تتوقف عند رؤيتها للرجل أخيراً في مكتبه، كرسيه أصغر من حجمه بكثير وواضح أنه حشر نفسه في الكرسي حشراً مما كوَّر بطنه بشكل زائد عن الحد.
أمامه أوراق مهمة لأنه لم ينظر اليهما ولم يقف لتحيتهما…
المحافظ. دات نطق.. المحافظ .بعدها بلهجته العامية:
نعم يا أختي ؟
قدمت له الهدية وبطاقة الواسطة التي قرأها بسرعة وقال لا بأس سجلي اسمك في عند مدير المكتب وعندما يجدون عملاً لك سيتصلون بكِ، كانتُ تود أن تشرح له أنها مسجلة هناك منذ سنوات عدة لكنه أنهى المقابلة قائلاً: مع السلامة نحنا في الخدمة.
رجت دموعها ألا تنهمر قبل أنْ تغادر مقر المحافظة في الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق
هنادي زحلوط
الأمطار السوداء تغمر كل شيء , تمضي لحظة قبل أن تستقر الحقيقة في أعماقها ( لقد انقطعت الكهرباء وهي الآن عالقة في المصعد(!
تضغط مطولا على زر مضيء لاستدعاء عمال الصيانة , يجيبها صمت مخيف , كالصفعة تتذكر : اليوم هو الخميس , آخر يوم في الشهر , الساعة الآن تجاوزت الواحدة , ذهب العمال ليقبضوا رواتبهم ! الجمعة عطلة , والسبت أيضا , ستبقى هنا حتى صباح الأحد !
تتراءى لها صراصير وجرذان تنقض على أطرافها وتأكل عينيها !
تحس بضيق في أنفاسها , تستجمع قواها , تباعد بيديها الضعيفتين بين مصراعي الباب الداخلي للمصعد ليمتد خيط من الضوء من خلال بابه الخارجي فيدق قلبها ناقوس الأمل ( لا بدّ أن أخرج , انه ينتظرني) !
ترى الظلمة تهجم نحو الضوء تريد افتراسه وتدفعه للهروب أمام طغيانها فيفيض الرعب منها , تركل الباب بقدميها , تسمع صوت خطوات تقترب :
– من هناك ؟
-لقد علقت في المصعد , أرجوك استدع العمال
-هل أنت وحدك ؟
-نعم , أسرع , إنني أشعر بالتعب
تدرك أنه لم يعد بمقدورها تحديد موقعها المظلم , الطابق الثالث ؟ الرابع ؟ الذين في الخارج يعرفون , ولكن ذلك غير مهم , المهم الآن هو أنها تصارع الظلام و يجب أن تنتصر , يدق الناقوس بقوة ( انه ينتظرني , ينتظرني)
طغى الصمت مجددا , شلل في أطرافها , تعرف أنه يوجد كرسي صغير هنا , لكن الجلوس عليه يعني الرضا بهذا الظلام كله والاستكانة له , لا , هي غير راضية , غير راضية , وهي لا تريد الجلوس أرضا والاستكانة للغبار الذي خلّفته الأحذية , هي لا تريد ذلك , بقيت واقفة !
عاد صوت الخطوات ليملأ أذنيها أملا
-العمال غير موجودين , سأذهب للبحث عنهم وسأعود فورا
-نعم , ابحث عنهم ولا تعد دونهم
لقد اعتادت الظلام الآن , تعلم منذ أيام الدراسة الإعدادية أن العصي وحدها هي التي تعمل في عينيها أثناء الظلام , العصي وحدها ؟ ترى ألهذا السبب تؤلمها يداها وقدماها ؟
صرخت معدتها الفارغة ممزقة الصمت ( هنالك أحد يجب أن يموت جوعا , أنا أو أبناء هؤلاء العمال , يجب أن يموت أحدنا )
تسمع صوت باب يفتح , في الأسفل ؟ في الأعلى ؟ لم تعد تعلم , يصلها في أفظع لحظة في حياتها ذاك السؤال الجميل ( هل هنالك أحد في الداخل ؟ ), وتسمع صداه ( هل هنالك أحد في الداخل ؟ ) كم هو مؤلم هذا السؤال !
تصرخ بكل ما بها من قوة
-نعم , أنا في الداخل , أنا في الداخل !
تمضي لحظات رهيبة قبل أن يفتح الباب ويبهر عينيها الضوء !
وتسرع بالقفز على الأدراج محتضنة الضوء برموشها , وبين أنفاسها اللاهثة تتدحرج عبارة واحدة ( مازال ينتظرني , نعم , مازال ينتظرني