نادية العبيدي
كانت الفرحة تراقصها وتنط بخفة على اطراف اصابعها كراقص الباليه .. مرتدية ابهى حلة وهي تلاحق اللحاظ المتباطئة عمداً كي تلتقيه .. منتظرة ان تحتضن بكلتي يديها اصابعه وتستشعر دفئها وتعتصرها وتجعله يتلمسهما ويتحسس بنفسه ثورة الدم وغليانه فوق وجنتيها اللتين حتماً ستتوردان فرحاً بحضوره كما وعدها بكل تأكيد لانه دائماً يفي بوعوده معها اذا ما وعد …!! هذه هي جنان بأنتظار حلم العمر…
رتبت كل شيء لأجله وكما يشتهي .. واول شيء فكرت به هو زهور الكاردينيا التي يتعشق نسيمها مختلطة مع القرنفل القرمزي والابيض ..والبست طاولتهما الصغيرة لوناً بنفسجياً حريرياً شفيفا ونسقت اورادها بالوان بين الابيض والاحمر … اختارت له الجلوس على كرسيه الهزاز الذي اعتاد الاستلقاء عليه فأسرعت قبل وصوله بتغليفه بشرائط ذهبية كي تتمايل مع اهتزازاته وكأنها اشراقات شمس صباحية مبكرة … وضعت هداياه بصورة منمقة بعد ان غلفتها بالورق الملون وكارتا صغيرا مزركشا يخلو من اي شيء الا من قبلة رقيقة مطبوعة في احدى زواياه … احضرت شمعتين فضيتين وضعتهما متقابلتين في كرستالتين رقيقتين اوقدتهما فتحول المكان الى الوان قوس قزح المتحلل بفعل انعكاس الضوء ، ارتدت له ارق ما عندها فستانها الشذري الذي يعشقه ولطالما اثار لديه انهيالات من الشعر الذي يغزل كلماته كجدائل ويتدفق كشلالات عشق تطفح بالحب فيسكبها بين راحتيها ولا يتوقف عن الكلام حتى تخضل عيناه دمعاً … فيقول احبك جناني ..كانت تتباهى بهذا الاسم لأنه هو من اطلقه عليها حين قال:( يقال ان ماء الكوثر في الجنة اي ان الجنة تختص بماء الكوثر ولا يختص به اي مكان اخر ،، وانت جنان الجنان ، بل سأسميك جنانا انت نرجسة المعنى وهذا اقوله بكل حب وقلبي يخفق لدرجة الهدير)
يأخذها بين يديه ويحملها ويدور بها حتى تختلط الارض بالسماء وينبسط الكون الا منهما … كانت البلابل تزقزق فرحة وهي ترقص على ضوء الشموع بعد ان زينت بيتها بالآف الامنيات منتظرة ان يأتي كي تقف على راحتيه وتلعب معه وتشرب من عذب حنانه كما تعودت…
جاوزت الساعة حضوره .. وبدأ القلق يدق نواقيس خطره ويسيطر على مجرى ما تبقى لها من يومها .. كان يتصل بها بين الحين والحين معتذراً بأنه على وشك الحضور لكن ما كان في جعبتها شيء غير وحش الانتظار والتخطيط كيف تكسب المعركة ضده اذا ما استمكن منها ..!! سقت الشموع بعبراتها الكرستالية وخفت ضوؤهما شيئاً فشيئا حتى استحال المكان الى ظلام دامس وهي لا تزال جالسة في مكانها تنتظر … وتعالى من الخارج صوت رياح عاتية واوراق الاشجار بدأت ترتعد وتحول كل شيء الى ليل شتائي كئيب يلفها وهي جالسة على كرسيه حاسرة ركبتيها على صدرها محتضنتهما بيديها والدموع رقراقة ترسم الطريق الى جيدها بين خصلات شعرها المبعثر التي تغطي وجهها والمستجيبة لاهتزازات الكرسي .
كان الوجود اخرس الا من تكتكات الساعة على الحائط وصوتي شهيقها وزفيرها وفوران الدم وغليانه داخلها .. كانت تردد مع نفسها معاتبة له لِم كل هذا ..!! وعودك ليست هواء او خواء وانما هواء في شبك ترتجف كل مسامات وجدانها وهي تزيل كل مظاهر الاحتفال بعد ان يئست تماماً من حضوره … فأمسكت بالقلم لتنقل عذابها وتسطره على الورق فكتبت: على استار حزني العسجدي استصرخ دمي فكتب .. كل الايام لكم ….؟ كل السعادة لكم ….؟ كل الحياة لكم .. وانا ما لي سوى الالم وبعدك ..؟مهما ستقول وستقدم من اعتذار لن اقبل .. واستذكرت ما كان يقول لها حين تغادره للحظات : حين تغادريني ينعدم الزمان والمكان وتجف عروق الحياة بجسدي واتحول الى كائن بلا حيز ولا اسم ولا معنى ولا عنوان . فأحبيني أحبيني يا اسمي ومعناي وعنواني .. كيف ستغفو وتستسلم عيناك لنوم وانا انتظر..!! اتذكر رسائلك التي كتبت فيها ما كتبت :سلام على الليل اذ يحتويك .. سلام على القلب اذ يصطفيك .. سلام عليك جناني .. اتذكر حين وصفت لي بعدك عني قائلاً : واني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض عصفور بلله القطر .. احبك وفرائصي ترتعد لبعدك عني ، فأنا بدونك عديم اللون والطعم والرائحة…!!! اين ذهبت كل هذه الكلمات .. اين شدت الرحال ..!! بل الى اي اتجاه غادرت ..!!؟ ستنتحر البلابل على اعتاب قدميك .. وتذوب الشموع بكاء تتوسل لقاءك مجرد لقاء ..!! وستنزع الزهور عطرها وتقدمه هدية لك … وتبقى هي بعد كل هذا تترجى حضورك .. فهل تراك ستأتي … يا زهرة الاوركيد دون وعد..!!!؟