حواسم ثانويون

علي السوداني

قبل عشر سنوات، وقع عطب في مولدات وموردات الطاقة الكهربائية بولاية أمريكية أظنها لوس أنجلوس، فلبس حشد من الفقراء وأبناء الشوارع والحرامية، سترة الظلام وقناعه الواقي، ويمموا وجوههم وأرواحهم صوب دكاكين الصاغة وصرافات البنوك وأمكنة بيع وخزن ما خف حمله وكبر سعره، فنهبوا ما نهبوا، وسلبوا ما سلبوا، وأحرقوا ما أحرقوا، حتي طلع عليهم ثانية ضوء الكهرباء وعصا الشرطي ورهبة القانون، فعادوا من حيث أتوا. قبل نحو ثماني سنوات من الآن، سقطت بغداد تحت بساطيل الهمج والحرامية الأمريكان، فانبعث من زواياها المظلمة وحاراتها المعدمة، حشد من جياع وحرامية راحوا ينهشون ويحرقون وينهبون دكاكينها وبنوكها ومشافيها ومدارسها ومتاحفها وجامعاتها ووزاراتها وقصورها، منهم من غنم سلة دولارات سمينة، وآخر شال كرسياً ومزهرية، وثالث حمل جهاز حاسوب، ورابع استوطن بيتاً مسبياً، وسادس عاد بباص أم قاطين الي الدار، ورئيس حركة سكن قصراً بائداً، ومن هذا التوصيف الأخير، انولدت صور مخزية مذلة مهينة شملت بعارها وشنارها، الثوار والرعاع ومن جاورهم، وقد أطلقت الناس علي هؤلاء، تسمية دالة معبرة شامتة ضحاكة هي ” حواسم ” والتي نراها اليوم واضحة ملونة مبثوثة علي الهواء الطلق، في مدن وحارات وأزقة وساحات بلاد النيل الخالد، مصر الحبيبة التي هاجت وماجت وانتفضت كي تكنس من أرضها، آخر الفراعنة المستبدين الظالمين المتخلفين القساة، حسني والذين معه. للعراقيين ذكريات بطعم العلقم مع الفرعون حسني، ففي سنوات الحصار المرة، كان علي المعلم العراقي الشارد الي عمّان والحائز علي بارقة عمل ممكن بليبيا العظمي، كان عليه أن يعبر بالعبارة من ميناء العقبة الأردني، وما ان ينزل قدماه فوق البر المصري، حتي تتلقفه أيدي الشرطة الخشنة وتوصله مخفوراً عند عتبة الحد الليبي البعيد، أو عليه أن يتدبر كروة طيارة مكلفة ثقيلة تحط به فوق أرض السودان، ومن هناك يقطع طريق الرعب والصحراء والمجهول حتي أول واحة ليبية باردة. كان ذلك في زمان الحصار، وتواصل حتي قبل صلاة الثائرين الطاهرين الطيبين بميدان التحرير، فلا أذن دخول لعراقي الي مصر، الّا بشلعان القلب وطفران الروح، وهذا مثال قياس جري مثله في دكان السياسة والرياضة والثقافة والفن وهو ما يبرر فرحي العظيم بكنس هذه الدكتاتورية وما شابهها ووالاها وبوّق لها. ان ظاهرة السلب والنهب والحرق المصاحبة للتبدلات العظمي، ليست مقصورة علي شعب أو ملة، وربما جري تضخيمها ونفخها وتصنيعها – حكومياً – في هذا المشهد أو ذاك، من أجل اشهار ” الحواسم ” الثانويين بمواجهة الحواسم الرئيسيين، كما وقع في بلدي العراق، حيث انزرعت الكاميرات علي سارق سرير او صحن او كرسي او اطار صورة، واغمضت عيونها عن سراق الدولارات وسبائك الذهب وقطع الآثار واللوحات والمخطوطات والأرشيف، وأيضاً، القصور والفلل والمزارع والمناصب والنفط. اللهم اجعل مصر قدوة وأسوة كما كانت تونس الخضراء من قبل. مصر تستحق الصحة والعافية والقوة والحرية والكرامة والألق. مصر أمنا بهية، ام طرحة وجلّابية. مصر الغنوة التي نرتلها سهاري خاشعين مغرمين عاشقين. مصر ام الدنيا وام كلثوم وعبد الحليم وفريد وعبد الوهاب وسيد درويش والسنباطي وزكريا احمد وليلي مراد وشادية وفائزة احمد ومحمد رشدي وعفاف راضي. مصر أفلام الصبا والشباب والحب العذري. مصر احمد شوقي وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف ادريس واحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي والشيخ امام. مصر التي تعداد شموسها ونجومها يحتاج الي كل قصب النيل ليخط فوقه. مصر المحروسة التي مني النفس، أن ندخلها آمنين.

Facebook
Twitter