تتوزع المجموعة الشعرية “مشهد مختلف” للشاعر العراقي حميد سعيد على سبعة أغراض ) ما يُشبه الخراب بل هو الخراب – مقامات بغدادية – رسالة إعتذار – أوراق من دفتر المراثي – هذا كتاب الى الناس – بستان قريش – نلتقي بزمان جميل)، ومن خلال هذا التوزيع لهذه الأغراض يستطع المتلقي أن يجد أن واجهة كل غرض مستقل عن الغرض الآخر على صعيد البناء وصعيد المحتوي وكذا استحضار الموروث أو التلميح بالوقائع، للوصول الى العلاقة الرمزية بين هذه الأغراض.
ولعلنا نكتشف شيئا آخر هو قدرة الشاعر على أن يضع عقله الباطن أمامه كصور معلقة على الجدران وهو الغرض الذي أراده كي تكون رسائله غير منغمة بالألغاز ما دام الأمر يعني مأساة شعبه ووطنه، وهنا أوجد لزومية التواصل مع أشيائه الخاصة والتي لم تمض بعيدا ولا زالت طرية ومعلومة ولربما كان هذا الإستحقاق هو الجدوى المنتجة عبر مسار تاريخي وصفه الشاعرُ بالحقبة القاسية ليكون المعيار الذي تتجه اليه وحدته التكاملية التي تجري بدواخلها كل الصراعات النفسية وأشباح الآمال المحطمة عبر التمركز تارة في الذات كطبيعة يتطلبها الهم الإنساني، وتارة خارج الذات لتعشيق التجاوب الصوتي مع الآخر لتشكيل الآخر والآخر والآخر للوصول للغايات الجمعية.
ومن تلك المسافات وضع الشاعر للكلمات ترتيبا معينا من الأفكار المؤثرة والعميقة وعدم الميل الى رؤيا السوداوية في رسم المشهد، والسوداوية هنا لا تراها لكنك تدركها، وكيف لا والشاعر يتحدث عن وطنه المسلوب، وطنه الخراب عبر انتقالات غير محددة من الصور والتداعيات بين مساحتين، مساحة بيضاء ومساحة سوداء:
(فالزمان كان .. والجمال كان .. ومدن البهاء كانت .. والصورة لم يبق منها غير الأثر .. ).
وهذا التناول يقوم بفعل عمل حركي (للموجودات العينية – للأفكار – للمرادفات – للنوازع الآنية – للخوف – للموت – ولكل الإحتمالات غير المتوقعة ..) مع رعاية متوالية لمخزوناته من المواقف والرؤى الشعرية لصعيده الشخصي كونه جزءا فاعلا من الحركة الشعرية في العالم العربي وحراكها الأدبي، وبهذا الوجود الكبير فالشاعر حميد سعيد يكتب في أفقه الفسيح وشكله الخطابي الجزئي شكلا إستدلاليا نحو المشتركات المتشابهة ضمن ما جرى هنا وما سوف يجري هناك.
لاشك أن هناك صيغا جديدة في التفكير وهناك أخرى في الحساسية الشعرية، وهناك ترتيب تصاعدي في تطور الخطاب، وهناك تناسق تعشيقي ما بين المهارة واستقطاب الخيال بجزئية محسوبة لضمان النظرة من الداخل الى الخارج، وهو ما يؤكد بأن الشاعر دؤوب على تفحص وسائل اللغة وتعينه لمناطق الإستقبال والطرد وهو مستغرق في خلق نتاجه، ولاشك كم هي من عملية مضنية لتحقيق المراد، وكم هي من عملية مضنية أن تريد أن لا تنسى مكاناً أو اسماً تركا لك مؤثرا ما لتتخذ منهما معينا في رحلتك المتواصلة نحو عالم الشعر والذي ترى وجوده أزليا لقيام الساعة:
ليس سوى الرماد والجراد .. بين الصلب والترائب
ليس سوى الغرائب
…………
إن في بلادنا غُراب
جاء به الأغراب
……………
كنت أظنُ بأن البلبل شاخَ تخلى عن جارته النخلةِ
ساورني شكٌ.. في أن النجمةَ تخرج من أسر الليل
يقفُ الرسامُ أمام مربع لوحته
فيرى ألوان اللوحة في غير مواضعها..
ثم يرى بغداد.. وقد ذهلت عما كان بها
تدخلُ منزلة ما كانت تقربها
حيث رماد مقاماتٍ.. وغبار أغان
إن الشعر بهذا الوصف يستوفي كماله الفني، ويعيد للمتلقي فرصته للإحساس بلوعة الجمال، بل ومن خلال هذه اللوعة ولتكن مفارقة ما في وعي المتلقي فهي نجاح للشراكة النبيلة التي يعقدها الشاعر عبر الشعر مع الطرف الآخر.
وهناك في هذه المجموعة الشعرية “مشهد مختلف” والصادرة عن دار أزمنة، أشكال من العلاقات الجديدة التي لا تخضع لأي تصنيف سوى وجودها الشعري الذي تشكلت من خلاله وكذا الشعور بالتنظيم والتناسق بين المتطلبات الشعرية وحل إشكالاتها الزمنية ضمن مداخل المقاربات في النص فأشتهت بما أراد خطابه فكان له أن يكون شعره إضافةً لمضمونه الجمالي أكثر وعيا وأكثر إرادة
- info@alarabiya-news.com