محمد رؤية ناظم
لقـد عانت البشريـة من مشكلات أساسية على مـدى تاريخها الطويـل، وحتى قبل تشكل المجتمعات الحديثة، وكانت هذه المشكلات سببا رئيسا في تزييف إرادة جماهيرها، واستنزاف ثرواتها وإمكاناتها، وتضييع حقوقها الأساسية والطبيعية، المقدسة، وفقا لكل النواميس والقوانين الطبيعية التي فطر الله الناس عليها، ومن ثم اكتست أرض البسيطة بالعديد من أوجه الصراع المرير الذي أودى بإمكانات الشعوب والمجتمعات، بل والكثير الكثير الذي لا يحصى من أرواح البشر على مر العصور، ولعل أهم القضايا التي كانت على رأس أولويات الشعوب والمجتمعات في هذا الصراع التاريخي الطويل مسألة الحرية على أصعدتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإذا كانت الديمقراطية هي وجه الحرية على الصعيد السياسي، إلا أنها ارتبطت ارتباطا وثيقا، بحاجات الإنسان في كل مكان وزمان، باعتبار أنه في الحاجة تكمن الحرية، وهكذا ظهر الارتباط الوثيق، بل والنهائي والمصيري، بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، ولم تتوقف الحرية عند هذا الحد، ولا يمكن أن ينتهي الصراع حولها في هذه الحدود الضيقة، لأن الحرية ينبغي أن تستند إلى شرائع تنبع من وجدان الشعوب، وتنسجم في ذات الوقت مع تراثها الحضاري ومبادئها الروحية التي تتمثل في الأديان أو الأعراف أو غيرها من القيم السائدة في المجتمعات، هذا على صعيد.
وعلى الصعيد الآخر فإن المدنية أفرزت العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية التي تعتبر مساسا بآدمية البشر، وأثرت سلبا على حياتهم، وأخرجتهم من واقعهم الإنساني، ودفعت بقوة في اتجاه المساس بالحقوق الإنسانية، أي المعنوية للفرد وللأسرة، كما أثرت هذه الظواهر الاجتماعية سلبا على بعض شرائح المجتمع كالأقليات والمرأة والأطفال الذين تحرمهم ظروف الحياة من أن يعيشوا في ظروف طبيعية، كمن يحرمون من الأب أو الأم أو غيرهم من الذين يعانون قسوة أو معاملة غير عادلة، ومن ثم فإن البشرية في العموم، والمجتمعات كل على حدة، وكذلك الفرد، أي الإنسان المطلق، رجلا كان أو امرأة أو طفلا في أي من حالاته الإنسانية، ووفق ظروفه الخاصة، يحتاج في الواقع تقنينا لكل هذه العلاقات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، يناسب طبيعته ولا يخرج به عن آدميته، ويحفظ له أيضا حقوقه الأساسية والطبيعية، ويقدسها، وفي ذات الوقت يعطيه حقه الكامل في ممارسة حقوقه السياسية في ديمقراطية حقيقية، ويضمن للفرد ( الإنسان ) حاجاته المادية بعيدا عن الاستغلال أو السمسرة، كما لا بد من ضمانات حقيقية لتوزيع الثروة بين الأفراد في المجتمعات توزيعا عادلا، وهذا التوزيع العادل في حد ذاته هو الكفيل بتحقيق السلام الاجتماعي القائم على ركيزة أساسية وهي الإحساس بالعدالة، التي تولد حالة الرضا لدى الأفراد وتقضي على أسباب الصراع.
ولا شك أن هنالك اجتهادات مرت بها البشرية على هذا الطريق الإنساني، فكرية وأيديولوجية وفلسفية، وأخرى عملية قد لا تملك غير البعد الإنساني، دون فهم حقيقي لطبيعة الصراع بين الجماهير وأعدائها الذين يسلبونها حقوقها، ويحجرون على إرادتها، ويحتكرون حاجاتها، ودون فهم أيضا لأدوات هذا الصراع، ونتائج الخوض فيه، كما لا تعي تلك الاجتهادات العملية في الحقيقة، مبررات أطراف الصراع، ومن هذه التجارب الإنسانية ما أطلق عليه نظريات سياسية بحكم أنه ينال بعض الترتيب في طرحه، بين حقائق وأسباب ونتائج، أي أنه اصطلح على تسميتها نظريات سياسية تجاوزا، لما شكلته من تحول في التاريخ السياسي، أو في السياسة عبر التاريخ، وهذا في مجمله ما يطلق عليه تاريخ الفكر السياسي، ويملك الباحثون في هذا المجال بعض النماذج للتدليل على هذه المسيرة، ونحن من منطلق الإيجاز باعتبار أن هذا فقط نستعرضه من قبيل المقارنة وليس من قبيل الدراسة نقول، إن هناك مفاصل لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها، بداية من نماذج إدارة المجتمعات البدائية، مرورا ببعض التكوينات النظرية مثل تصور أفلاطون ومدينته الفاضلة، إلى بعض التطبيقات التي تعتبر اجتهادات مثل تلك التطبيقات الصينية القديمة، وكذلك ما عبّر عنه كونفشيوس وغيره، وصولا إلى ما يطلق عليه الرأسمالية والماركسية، وهما النموذجان اللذان يعتبران الأقرب إلى ذهن إنسان هذا الجيل، باعتبار أنهما ما زالا جزءا من معاناة البشرية، وما زال الصراع بينهما قائما، علنا أو سرا، وما زالا يحركان الكثير من الشرور والآثام في مسيرة البشرية، ويشكلان عائقا أمام الجماهير يمنعها من الوصول إلى غاياتها في حكم نفسها بنفسها، والتخلص من كل أشكال القهر والعدوان على حقوقها.
ونستطيع أن نقول إن المجتمعات البدائيـة تميزت بالبساطة والمصداقيـة، حيث كانت القبائل تحتكم إلى حكمائها وفقا لشريعتها السائدة، وهي العرف الإجتماعي الذي يقبل به الجميع، كما كانت تلك المجتمعات تعتمد على نوع من الشورى خاصة في المسائل الحيوية، كالحرب مثلا عندما تكون هناك ضرورة اجتماعية لها، كالبحث عن المرعى أو المياه أو غيرها، أو في حالة الدفاع عن نفسها عندما يفرض عليها العدوان، وكانت في معظمها مجتمعات عائلية أو قبلية، أو تتكون من ائتلاف من القبائل المتشابكة أو المتآلفة أو المتحالفة في أكبرها، ونادرا ما يسري الصراع في أوساط هذه المجتمعات، وإذا حدث فإنها تحتكم للعرف القبلي.
ونذكر أيضا على سبيل المثال المدينة الفاضلة لأفلاطون، ذلك الفيلسوف الذي أبدع مجتمعا فاضلا يرتكز على الشفافية والقيم النبيلة، ولكن مجتمع أفلاطون ومدينته الفاضلة لم يكن أكثر من دعوى خيّرة، لأن أفلاطون لم يصنع لمجتمعه آليات تحقق أهدافه، وبالتالي فديمقراطية أفلاطون التي اعتبر أنها تخلص الإنسان من تزييف قراره وتحقق الحرية لإرادة المجتمعات البشرية، لم يصنع لها في الأسـاس أوعيـة تحتوي تلك الإرادات وخاصة في المجتمعات الكبيرة، وبالتالي اعتبر مجتمع أفلاطون مسألة فلسفية أكثر منه حلا لمشكلات الفكر السياسي، كما يعتبر حلا رومنسيا وليس حلا واقعيا يمكن أن يفضي إلى نتائج حقيقية على أرض الواقع.
كما لا بد وأن نشير من واقع الأمانة العلمية إلى العديد من النماذج السياسية التي سادت في العالم، وتم بموجبها حكم الكثير من المجتمعات على مر التاريخ، ولم تكن ذات سياق محدد، ولكنها كانت حكما للفرد ولا غير ، له إرادته أو أهواؤه أو مصالحه التي يحكم من خلالها وعلى ضوئها، متجاهلا أية قيم أو معان أو أهداف تخص الجماهير المحكومة، ومنها تلك الإمبراطوريات والملكيات والقيصريات التي سادت في الشرق والغرب، حيث الإمبراطور أو الملك أو السلطان أو القيصر هو الحاكم الفرد، والذي لا يعنيه ولا يكلف نفسه مشقة البحث عن مبرر لحكمه أو تسلطه العلني، وتوارثت هذه النماذج العديد من المجتمعات في القرون الوسطى، ووازاها وأعقبها لفترة وجيزة أنظمة الحكم الدينية التي كانت تحكم تحت شعار التفويض الإلهي، وكانت في معظمها أنظمة حكم كنسية، كما كانت هناك أيضا وبالمقابل محاولات لتأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وكافة هذه الأنظمة لم تكن تهتم بتأصيل المبررات أو الأساليب التي تنتهجها في الحكم من الناحية السياسية، وإن كان هناك دائما لديها المبرر لأن تمتطي صهوة الحكم، وأحيانا ترى أنها تملك الحق في أن تمتطي صهوة الجماهير وتستعبدها، ولا أدل على هذا من الذين يدعون أنهم النبلاء، أو ذوو الدم الأزرق وغيرها من التسميات والأوصاف التي تستند على سند عنصري، بل ونجزم من واقع المسؤولية، والأمانة في التحليل، أنها وفي مجملها لا تملك سندا سياسيا ولا أخلاقيا، فوق تجاوزها لكل الأعراف والقوانين السماوية التي أنزلتها الشرائع المختلفة، وتحاول في جزء منها أن تستند إليها.
إلى أن جاءت الثورة الفرنسية التي أسست للجمهورية على أنقاض تلك الأنظمة، على أمل تحرير الشعوب من مظالم أنظمة الحكم الفردية، الدكتاتورية، وكان الجمهوريون يعتقدون أنهم قد وصلوا بالبشرية إلى منتهى أمل جموعها في الحرية، وفي الديمقراطية، فهم لا شك حاولوا أن يصلوا إلى تطبيق ديمقراطي عبر أساليبهم التي ابتدعوها في الحكم، وذلك عبر النواب والنيابة والانتخابات، وللحق والتاريخ، لقد كان إنجاز الجمهوريين قياسيا بمقاييس ذلك العصر، وعلى قدر المظالم التي كانت تسود في تلك الحقبة البائسة اليائسة بالنسبة للشعوب التي كانت تقبع تحت أسوأ أشكال وألوان العذاب، من قبل أنظمة لا تعترف أن للإنسانية مفهوما واضحا يغاير مفهومهم لها، ولا تعترف في معظمها للجماهير بحق الحياة إلا وفق ما ترى هي.
ولقد أفرخت الجمهوريات التي استحدثتها الثورة الفرنسية ما رأيناه عبر أنظمة العصر الحديث من نظم سياسية، تختلف في العديد من أشكالها رغم أسسها المتطابقة، ومناهجها الواحدة، ووسائلها الموحدة التي لا يختلف عليها هؤلاء الذين يتمسكون بتلك الأنظمة، وغيرهم ممن يدافعون عنها، والآخرون الذين يدعون إليها، وهو ما يدعو إلى الشك أساسا في أنها تستطيع أن تلبي طموحات الشعوب وتطلعاتها في تحقيق حرية إرادتها وتحرير حاجاتها.
ولعل جناحي الرأسمالية، وهما رأسمالية الفرد ورأسمالية الدولة، وبصرف النظر عن اختلاف المسميات لهما، وكذلك الوسائل، قد سجلا بالفعل فشلا واضحا في الاتفاق على صيغة واضحة للحرية ومفهومها، فالرأسمالية كمشروع، أو ما اتفق على تسميته بالنظام الرأسمالي لا تعترف بالحرية دون حدود إلا لرأس المال فقط، أما الإنسان، فإنه يبقى أسيراً لقيم رأس المال والسوق والعرض والطلب، وآليات هذا النظام السياسية، بين نيابة وتمثيل، وانتخابات وتزوير، وشراء للأصوات عبر احتكار الحاجات، تضحي دون شروط بالإنسان الذي لا يستطيع أن يكون حاذقا ليلتهم غيره، عبر التهام حاجات المجتمع والسيطرة عليها حد الاحتكار، وهو ما يعتبر سببا جوهريا في تقييد حرية القرار وحرية الإرادة لأفراد المجتمع ، وبالتالي فلا مجال أساسا للديمقراطية التي يصورها الداعون لهذا النظام، ولا فرصة للبحث عنها بين حطام تلك المجتمعات.
أما رأسمالية الدولة التي كانت تعرف بأفكار ماركس، أو النظرية الماركسية، فقد اعتمدت نظام حزب الطبقة، وهو حزب العمال الكادحين، أو (البروليتاريا)، واتخذت منه حصنا وقاعدة للقفز على السلطة، واعتبرت أن كل مبرراتها لفرض مرتكزاتها هو فشل النظام الرأسمالي في تحقيق طموحات الجماهير في الحرية والعدالة الاجتماعية، إذن فماركس بنى أفكاره على ما تصوره أنقاض ” دعه يعمل دعه يمر ” وهو الشعار التقليدي للرأسماليين، والذي يفتح الباب على مصراعيه لرأس المال ليفعل كل ما يدفع به إلى النمو، حتى ولو على حساب قوت المجتمعات، وأرواح البشر.
الماركسية، أو رأسمالية الدولة كدست ثروة المجتمع في يد حزب العمال الحاكم، الذي تحكم فيه لجنة مركزية، يقودها مكتب سياسي أو لجنة قيادية أو لجنة عليا، ليصل الأمر في النهاية إلى يد الحاكم الفرد، دون أدنى مصلحة للعمال في هذا المسلسل الدموي الذي صنع ستارا حديديا فيما كان يعرف بالإتحاد السوفييتي السابق، ليبني الماركسيون مجداً على حساب الكادحين، وتتكرر المأساة التي تحدث في الغرب الرأسمـالي الذي يحكم فيه رأسمـال الفرد، ليحكم في الشرق رأسمال الدولة، وفي الحالتين، لا حرية للجماهير، ولا حقوق للجماهير، وذهبت في تلك المجتمعات، وإلى غير رجعة، قضية العدالة الاجتماعية.
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن النظامين الرأسمالي والماركسي هما وجهين لعملة واحدة، وقد حملا إلى الشعوب قاطبة وعلى مـدى عقود طويلة من الزمان، الكثير من المظالم، ولا أدل على هذا من الفشل الذريع الذي لحق بالنظام الماركسي، حيث سقط المشروع برمتـه في أول اختبـار حقيقي، وانهار الاتحـاد السوفييتي، ولـم تجـد الماركسيـة جماهير تدافع عنها، لأن الماركسية لم تحقق طموحات الجماهير في الديمقراطية، ولم تحقق لهم العدالة الاجتماعية بفقدانها في الأساس تلك الآليات والمفاهيم التي يمكن أن تكون أساسا لتلك العدالة التي تتوخاها الجماهير، وعلى الطـرف الآخر من الفكر السياسي، حيث تقبع الأنظمة الرأسمالية، نجد الصدامات الملتهبة، والدامية، بين الجماهير والأنظمة الرأسمالية، ونجد الهراوات والبوليس والقمع والانقلابات والثورات الشعبية، ويكتشف العالم بعد كل هذه العذابات أن العالم يتقلب ولا يتغير، وأن الرأسمالية تدور في فراغ كبير، ليعترف من يعتبرون الدعاة لها أنها فشلت في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، وبقدر ما شهدت مدينة سياتل في الماضي من صدامات بين الجموع التي حضرت قمة الدول الصناعية في نهاية القرن الماضي وبين البوليس، شهدت أيضا اعترافا واضحا من قادة تلك الدول بفشل منهجهم، ونستطيع أن نسجل هنا أن ” رومانو برودي ” رئيس المفوضية الأوروبية السابق قال بوضوح إن الرأسمالية فشلت في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واعترف بهذا الرئيس الأمريكي الاسبق ” كلينتون “، ولكن رئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير” كان أكثر حضورا في هذا الصراع، حيث انحاز أساسا لما يسمى بالطريق الثالث الذي ابتدعه معلمه ” هيدجنز ” والذي يختلف كثيرا عن المطروح، ويتجه حثيثا إلى الجديد في العالم، والذي طرحه الفكر الجماهيري، الذي أضاف إلى التاريخ الإنساني نظرية تاريخية، تحمل في طياتها للمجتمعات الإنسانية، خلاصا نهائيا من كل المظالم، ونهاية لعذابات البشرية من كل مشكلاتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتحقق ديمقراطية الجماهير الحقيقية، كما تحقق التوزيع العادل للثروة وللإنتاج، على قاعدة الشراكة، وفي ذات الوقت تحمل بين طياتها الحقوق الأساسية، الطبيعية والفطرية، عبر ملحمة فكرية إنسانية لا ولن يجود التاريخ بإنسانيتها