عالية محمد حسن
ان الفكرة العليا المنبثقة عن مبدع الكون ، خالدة شكلاً وموضوعاً ، روحاً ومادة ، جوهراً وعرضاً ، واما الفكرة الدنيا المنبثقة عن هذا الفكر المحدود الذي يجول بنا ، او نجول به في عالم الفكر العام ، اما هذه الفكرة فخالدة موضوعاً لا شكلاً ، وروحاً لا مادة ، وجوهراً لا عرضاً ، فالقصر او الساعة ، او الدولاب ، او القلم ، او نحو ذلك من مخلوق هذا الفكر الانساني ، انما يخلد بجوهره في حيز الفكر ، واما الخارج فيتمثل في جزيئات تتلاشى اعيانها ثم تتجدد في اشكال اخرى يجمع بين القديم والجديد منها ن كلي عام هو وليد الفكر الانساني.
فالحكمة في الاثر على قدر الحكيم المؤثر جمالاً وخلوداً ، فليس لنا ان نقيس حكمة المخلوق في اثره الى حكمة الخالق في اثره، ولعل صميم المنطق ان نقول: ان قابلية المؤثر في الخلود مقيسة على قابلية اثره في الخلود ، فالانسان اذ يبدع شيئاً تضمن الحكمة فيه الخير والبقاء جيلاً او اجيالاً ، يحملنا على اليقين بان مبدع ذلك الشيء ، قمين بالخلود كذلك ، اما ان نرى بعض الاثار ماشئت الدهر اجيالاً وقد فني مبدعها ، فذلك لا يحول دون الحكم على انه قابل للخلود معها ، لان حياة الانسان لا تنتهي بموته ، اذ نرى كثيراً من الاعمار تحترم احتراماً ، والقابلية للتعمير لما تزل في جسم ذلك الميت.
فليس في حياة الانسان وموته ما يدلنا على ان اجله محدود وانما هنالك دليل على انه لا بد ميت ، اما متى ؟ فالعقل يحكم بان الانسان قابل للحياة اجيالاً لو حصر العلم بحثه في ناحية التعمير ، افلا نرى بعض الشجر يعمر الاف السنين ؟؟ فلماذا لا يعمر الانسان كما يعمر الشجر وهو اقوى على التعمير من الشجر؟؟ وذلك لان الشجر يعمل في طبعه على بقائه ، واما الانسان فيعمل في غير طبعه على هلاكه قبل ان يحين هلاكه.
وبعد ، فهل ندرك معنى الحكمة من كل ما مر به ؟؟ انه تركيز العامل فكره فيما يعمل باتقان ، بحيث لو سئل زيادة في الاتقان عما كان منه لما استطاع فموضوع الحكمة اذن هو كل عمل يلأتيه الانسان ، فان جاء به على اتمه كان فيه حكيماً، والا كان سفيها او غشاشاً.
لان الغش يقابل الحكمة في العمل الناقص الذي يصدر عن عامل عالم ، واما السفاهة فتقابل الحكمة في العمل الناقص الذي يصدر عامل جاهل ، وانما خصوا السفاهة فتقابل الحكمة في العمل الناقص الذي يصدر عن عامل جاهل ، وانما خصوا الحكمة بالعمل العقلي كالامثال المضروبة في تشريع الحياة ، وخصوها في القضاء بين الناس، فاطلقوا على ضارب المثل لفظ الحكيم ، وعلى القاضي لفظ الحكم او الحاكم ، وانما فعلوا ذلك اشعارا بان الحياة تكاد تتقوم اولا بسياسة الناس دينا ومدنية ، وسياستهم كذلك قائمة على تعزيز القضاء والدين.
ولهذا يرى الناس بالحزم والاخلاص هم القضاة القائمون على الحكم بين يدي الناموس الالهي او القانون الاجتماعي ، والحزم والاخلاص معا يحققان معنى الحكمة . اذ نفهم ان الحزم هو وضع الشيء في محله ، وان الاخلاص هو توجيه الجوارح بالعقل لانجاز العمل خالصاً للحق ، فالحزم يقتضيه العلم ، وماما الاخلاص فيقتضيه الايمان ، والحكمة في كل عمل هي رائد المؤمن العالم فقط ، ولعلها لا تصدر الا عنه ، ومن خلال ذلك كله ندرك السر في قوله عز من قال:((ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً)).
في كل اثر عبقري ، جزء من روح مؤثرة يهيمن عليه ، ويقيه خرم الاجل في طريقه الى الخلود ن ذلك الحرز الذي هو جزء من روح الحكيم ، وهو ما نطلق عليه لفظ الحكمة ، فالصانع العبقري ، زعيم بان يحفظ صنيعه من ظلم الزمن ولو لم يرعه بعينه، ويهيمن عليه بيده ، وقد يموت الصانع ويبقى اثره اجيالاً بعده مرعياً بغير عين ومهيمناً عليه بغير يد ، ولكن بما فيه من اخلاص واتقان ، واجادة واحسان، ومجموع هذه حكمة امعن في اسباغها على الصنع تكوينا وتلويناً ، فكر صناع حكيم.
فالاريكة المحكمة الصنع لا تحتاج ، في مكافحتها الزمن ، الى عين صانعها لتحميها من الكسر ، ولا الى يده لتصونها من التلف ، ولكن جودة الصنع فيها ، وجلال الفن المسبغ عليها ، يصفع وجه الزمن ان يجر عليها الفناء العاجل ، وتسخر في كل جيل ، ومن يهيمن عليه بروحه ، ويقيها الضرر بماله، ففي لونها الثبات الذي يقاوم الهواء والنور ، وفي شكلها الجمال الذي ينافس الخلود ، وفي بنائها القوة التي تماشي الزمن وفي مادتها الجودة التي تصد على الدهر.
والقصيدة المحكمة لا تحتاج ، في خلودها ، الى مداد قيم تسجيل به ولا طرس جيد تكتب عليه ، ولا هي مفتقرة في هذا الخلود الى قلم بارع يحكم الخط والرقم ، ولا الى يد مرنة تحسن توجيه ذلك القلم ، ولكن روعة الفن في تخير الكلم ، وابداع الخيال ، وسمو المعنى ، وجمال النظم ، كل ذلك يسخر للقصيدة في كل زمان ومكان ، صدرا يعي ولساناً ينشد ، وقلماً يسجل، فالاثر الحكيم قائم على الخلود بذاته لا يحتاج ، في سبيل خلوده ، الى اكثر من الحكمة التي يتقوم بها.
والله ن تعالى الله ، حيث يقول: انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ، ليس معنى ذلك انه ، اذ بعث بناموسه الينا على لسانه نبيه ، عمد الى كل نسخة منه فوكل بها ملكاً يعصمها من التلف او يحميها من الجور ، ولكن ما يشمل عليه من حكمة بالغة ، ونظام سام ، وصور حية من بلاغة في التعبير ، وروعة في الاسلوب ، وبحر زاخر من العلوم والفنون ، كل ذلك يعوز الانسان في اي جيل ، ويضطره في سبيل حياته ، لان يقدس هذا الناموس ويعتصم به ، ويقدمه بين يديه ، وهو ينشد الحياة.
فالحكمة في الاثر كالارث الوفير يتركه الميت لمن يخلفه في الحياة ، فكما ان هذا الارث يسخر الناس لحراسة الوارث فتحدق به العبيد والخول ، وتختلف اليه الاصدقاء والاحبة ، ويتهالك بين يديه عبيد المال والجاه ، فيكون له من ذلك حرز يحميه غائلة الدهر ، هكذا نجد الحكمة في اثر الحكيم تضفي عليه الخلود بما تسخر له من ايد تحمي وعيون تحرس.