علي السوداني
الى : صدر الدين حمه أمين
لا يوجد حتى اللحظة ما يشير الى تمام زمن تدوينها لكن خبراء المخطوطات والفحص المخبري كانوا أكدوا على ان تلك الحكاية الظريفة ربما كتبت قبل سبعمائة سنة على الرغم من ان المختصين والدارسين لهذا الحقل قد عادوا الى جميع مخطوطات ومدونات الراوية الرافديني الشهير عبد الستار ناصر جدوع الزوبعي الرصافي ، الا أنهم لم يعثروا على هذه الحكاية حتى في المجلدات التي أنجزها الراوية الزوبعي في أخير أيامه حيث اصيب بالعمى بعد ان اجتاح وباء الجدري المطور ، المدينة وقضى على نصف سكنتها وفر من نجا من هذا المرض الملعون الى الحواضر والثغور المجاورة ومغاور الجبال السبعة التي تسور الحاضرة .الحكاية عثرعليها عتال بائس يسترزق من بيع وشراء معتقات البيوت الفائضة ، كان قنصها من بطن صندوق من خشب الزان ابتاعه من ظهيرة سوق الهرج ، مغلق بابه بوساطة قفل عثماني ضخم ما اجبره على ضرب القفل بمطرقة ثقيلة أدت الى فتح الباب مع ثلمة خشب اعاد رقعها واحد من عتاة المهرة كي لا يفقد الصندوق شيئا من قيمته التاريخية . من موجودات الصندوق ألأخرى ، لوحة فنية مذهلة مذيلة بتوقيع راسمها ابراهيم العبدلي ، لوجه ردّه الممحصون الى قصاص ضحاك ذرب لسانه اسمه علي السوداني ما يبرهن على ان الثلاثة : الزوبعي والسوداني والعبدلي كانوا عاشوا ما تأخر من سنواتهم الطوال في كنف الربة عمون قبل ان يدمرها الجدري اللعين ويحيلها الى خرائب واطلال وقبور مندرسة .هي مرصوفة حروفها فوق سبع صفحات مكتوبة بالحبر الصيني ويبدو انها كتبت بخط كاتبها بعد مقاربته بمخطوط مثير موضوع الآن في جامخانة محكمة في متحف المدينة الجديد . كان لون الورقات السبع أقرب الى ألأصفر المغبر وقد تهرأت من غير جانب وصوب وثمة كية سيكارة زرفت الورقات السبع واتلفت بعض حروفها الا أنها لم تؤثر على سياق وفكرة النص . الخط ما زال واضحا سهل القراءة والقاص الزوبعي كان دلّنا على جنس النص منذ البدء اذ كتب الترويسة على الشكل التالي :" البحث عن ضحية " **حكاية : عبد الستار ناصر جدوع الزوبعيمهداة بالضرورةالى : علي السوداني عالم اللسانيات عبد الحميد سوسة البصري الذي قرأ النص ألأصلي قراءة تفكيكية وافية ، قال :أرى اننا اليوم امام قصة قصيرة مدهشة ارتدى كاتبها قناع غيّاث الطباخ وان اهداءها الدال ، يوحي بقوة الى ان بطلها حميد النعسان هو القصاص الضحاك علي السوداني نفسه على الرغم من بعض الثغرات المشهدية المتصلة بحياة السوداني الذي كان اطلق قبل اعدامه بسنة ، جمعية اسماها " صعاليك من اجل الحرية " وكتب بخط يده الواضح الجميل بيانها ألأول وتحدث فيه بأسهاب عن ايمانه العميق بالجوهر ومقته الشديد للمظهر ورأيه في الخلق وفي الكون والهيولى وألأتحاد والأنفناء والأنمحاء وطرائق في التماهي مع الصانع الحق ، وفي تقديري ان واقعة خطف السوداني من عمّان وتقييده بالسلاسل ونفيه الى بغداد العباسية ومن ثم محاكمته المعلنة في ساحة ألأحتفالات الكبرى ورجمه بالحجارة حتى آخر نفس ، كان بسبب من افراطه في متن البيان بالحديث عن العلاقة بين الحاكم والرعية واشتراطات الحكم وحقوق الفقراء في الثروة ومهاجمته اللاذعة للمرجعيات الدينية المحنطة التي وصفها ب الدكتاتورية والمتخلفة والظلامية ، وآخرها ان تقوم الدولة برعاية وبناء حانات ومشارب عددها مساو تماما لعدد المساجد والكنائس والكنس والمنادي ودور العبادة عامة .جغرافيا القص ظلت محشورة في حانة الشرق المغمورة الآن بالمياه بعد ان تحول صحن المدينة العملاق الى سد تتجمع فيه أمواه ألأمطار والثلوج الذائبة التي تسيل من ذرى وسفوح الجبال الاربعة المسورة للصحن العظيم ، وقد عثرت فرقة آثارية قبل سنة الغمر على معصرة بديعة لتقطير وتخمير الشراب كانت مبنية تحت الحانة وتغطس في الأرض مسافة مائة ذراع . أما موجهات النص فكانت كلها تفضي الى صفات الصعلوك الشهير حميد النعسان لكن التفصيلات والصور التي بني على عمودها أس الحكاية ، ظلت شحيحة وفقيرة اذا ما قورنت بما وصلنا من حياة علي السوداني المكتظة بدءا من المصادفة الغريبة التي انطوت عليها ساعة مولده في مفتتح شهر نيسان الذي كان الناس يحتفون به على انه يوم الكذب الأبيض ، وانتهاء بمرأى اعدامه البشع في واحدة من اشهر ساحات بغداد العباسية ، وتفيدنا مذكرات حميد النعسان التي أعاد تحقيقها وتقديمها البروفيسور الفقيه عبد المطلب بن أحمد الموصلي البعشيقي وهو رجل من أهل الله والعلم ، و صدرت بخمسة مجلدات عن دار نشر حسقيال الطبّاع ، ان النعسان – علي السوداني على ألأرجح والأعقل – كان يدلف كل ليلة الى حانة الشرق صحبة نديمه وسميره وجليسه غياث الطباخ وحيث يريحان عجيزتيهما على التخت ، يأتيهما النادل عادل القبطي بشرابهما المفضل وهو عبارة عن زجاجة مختومة من عرق بيروتي اسمه " عرق توما " وكان من عادتهما رن الكأس بالكأس والتلويح به صوب كائنات الحان التي ترد عليهما التحية بشفط الكؤوس حتى أوشالها ، ومن هنا تبدأ اولى عمليات قنص الضحية الطيبة التي ستدفع تالياَ ثمن الخمرة ومقترباتها ومزمزاتها التي قد تتطور وتتمدد الى أسياخ فارهة من كباب شامي طيب ، لكن الأمر هنا يتوقف على نوع الضحية وما ملكت يمينها من دنانير فائضة .ثمة واقعة دالة تشي كثيرا بعمق الفكرة الآدمية التي كانت كلّفت حميد النعسان حياته وطبعت حياة عياله وزوجه بالشحة وبالعوز الأبدي . الواقعة التي توقف عندها البروفيسور البعشيقي مطولا تقول : انه في ليلة شتائية عاصفة كانت المدينة قد اكتست فيها لباسا ثلجيا ابيض ، دلف حميد الى الحانة وحيدا جيبه يؤذن فيه الفأر وانتقى مائدة منزوية وراح يفكر بكائن بمكنته أن يحط على مائدته ليكون نديمه ودافع ثمن أكله وشربه والسجائر ، لكن شيئا لم يحدث حتى الآن . الحانة الليلة مهجورة الا من كمشة زبائن فقراء يدري حميد انهم من سكنة الفنادق الرثة أو الأسرّة المفروشة على السطح ، وهم على هذا التوصيف لن يكونوا صيدا دسماَ له ، لكن حيرته لم تدم طويلا اذ اتاه كبير الندل عادل القبطي وزرع فوق مائدته المستوحشة نصف زجاجة عرق " توما " وثلاثة صحون من اللبن الرائب والحمص المهروس والممزوج بروح السمسم وحب الرقّي المشوي المدخن وهمس في أذنه ان اشربها وارفعها بالصحة وبالعافية وثمنها مدفوع من خراج مال صاحب الحان محمد الفايز النابلسي . يواصل الفقيه البعشيقي – ثمة معصرة ضخمة في أعالي بعشيقة تزود الناس بعرق طيب أسمه المستكي – سرده للواقعة فيكتب أن حميدا النعسان وبسبب من طقس الحانة الكئيب الليلة ، كان قد اجهز بسرعة على زجاجة العرق مع زهد شديد في لطع اللبن ، وعلى أنغام الكأس ألأخيرة راح يفتش في مرمدة السكائر عن عقب فائض ومصة دخان ممكنة فلم يجدها فقام على حيله فجأة حتى كاد يسقط على قفاه لولا يد حارس الحانة روماني الفرعوني الذي زرع أصابعه القوية في ظهر حميد المتعتع وعاونه في النزول الى الشارع ومن هناك ، قيل ان حميدا لم يعد الى بيته بل انعطف يميناَ مستهدفا جبلاَ عمّونياَ مشهوراَ اسمه جبل القصور الذي تنمو فوقه وعلى السفح والخواصر ، باقة من قصور ملكية بديعة ، وعلى عتبة بوابة عملاقة هي آية من آيات الفن العموني الراسخ نحتت من جسد الجبل ، استوقفت حميد ثلة من حرس القصر بلباسها البدوي التقليدي وسألته عن مراده فقال :اريد لقاء الملك عبد الله الثامن !!ضحكت الثلة وتعالى الصخب فحضر صاحب الشرطة فقصوا عليه ما حدث فقال :لكن جلالة الملك – عافاك الله وهداك وأبعد عنك الحمق وخواتيمه – ، نائم الآن ونحن على مبعدة دقائق عن أذان الفجر المقدس .لم يجب حميد النعسان ، بل قام بفتح حقيبته التي صارت جزءا من جسده حتى اذا سقطت من يمينه ، مال على شماله ، وأخرج منها رزمة من اوراق بيض مدعوكات عنوانها " صعاليك من اجل الحرية " وناولها الى رئيس الحرس وصاحب الشرطة وطلب منه ايصالها الى الملك . بعد هذا المشهد الضاج ، بدت الرواية غير دقيقة ومفككة ومفتوحة على غير خاتمة وخاتمة اذ ذكر المؤرخ البعشيقي ان الملك كان صحا على صوت الجلبة التي احدثتها ضحكات الحرس ودقات كعوبهم على الأرض جذلاَ ، وقفشاتهم ونوادرهم البدوية الدالة ، وايضا صوت حميد النعسان الذي كان يؤدي بخلطة من الغناء والألقاء والنواح ، مقطعاَ من قصيدة مستلة من ديوان الشاعر العراقي العظيم ابو الطيب المتنبي يصيح فيها :يا أعدل الناس الّا في معاملتيفيك الخصام وانت الخصم والحكملكن النعسان خرج من بيت القصيد هذا الى معارضة من ابيات الزهيري الشعبية الرافدينية ، منحوتات بصوت المغني العراقي الشعبي رياض بن سيد أحمد البصري العائش والمولود في القرن العشرين والمتوفى قرب ختمته ، مشتقة معانيها وآهاتها من روح قصيدة المتنبي العظيم ، ما جعل عيون الملك تدمع ورؤوس الحراس البدو الطيبين تنود وتهتز طرباَ والمآقي تلمع ، فأمر صاحب بيت المال بمكافأة دسمة دسّت بجيب حميد النعسان الذي شوهد في الليلة التالية يرقص ويغني في حانة الشرق وبيمينه رزمة من الليرات يطشها على حشد من صعاليك وبوهيميي الربة عمون ومن مشاهيرهم ، غسان مفاضلة وجمال زهران وجان دمو وصاحب أحمد وجمال القيسي وزياد الزرقاوي ونصيف الناصري وحسن النواب وفهمية الزعبي وجمال البستاني ومحمد صلاح ، لكن رواية ثالثة قالت ، ان الملك الذي نزل الى عتبة البوابة بملابس النوم ، كان متأثرا ومنزعجاَ من تلك الصعلكة الفجة والجلبة المنفرة والسكر المفرط الذي يثلم الهيبة ، لذا أمر بحبس حميد النعسان شهراَ يقضيه في سجن الموقر الصحراوي الشهير ، ولأن الملك الشاب كان قد سمع قصصاَ كثيرة عن أعاجيب واحبولات وطقاطيق وكلاوات حميد النعسان ، وخشي من ان ينجح هذا الشيطان برشوة حرس السجن بالغناء وبالطرائف وبالدهشة فيذهب واحدهم الى سوق المدينة ويشتري زجاجة عرق يزرعها خفية في حضن حميد ، قال : اياكم وجرعة عرق تسقون بها هذا الوغد ، وقيل كذلك انه لم تمض على حبس حميد سوى ليلة واحدة حتى شوهد الملك الوسيم بلباسه العسكري المهيب ، خارجاَ من سجن الموقر النائي ممسكاَ بيد حميد النعسان عائداَ به الى قلب المدينة حيث تنشتل هناك حانة الشرق السعيدة . وكما ترون فلقد ضاعت على الراوية الزوبعي كثرة كاثرة من الواقعات المدهشات النائمات في بطن سفر حميد النعسان وظلت تلك الحكاية وتأويلاتها في معمعة تضاد وخلاف وتناطح ، وألأرجح ان الزوبعي كان كتبها قبل ان تدخل سنواته المتأخرات ، كهف العمى والوحشة .
** قصة قصيرة لعبد الستار ناصر نشرت في آن في جريدة الزمان الدولية وموقع كيكا الثقافي