ثم انقطع البث علي السوداني

لبارحة كنتُ بسهرة مدهشة وحميمة مع صديقيّ المخرجين اللطيفين صبري الرماحي وصلاح أبو سيف. جئنا على ذكر بغداد وحاراتها ودرابينها وحاناتها وماناتها ودور السينما والمطاعم وصالات الفن والأدب.

كانا قبل الجلسة قد زارا الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد. تليفون صبري خربان وتليفوني من الصنف الذي استعمله عبدالله غيث بفيلم الرسالة، وأنطر الآن صلاح أبو سيف كي يرسل إليَّ صور الواقعة. قرأتُ عليهما بيتين عظيمين لأبي خالد ويكفيه مجدا وشعرا أنه قائلهما:

بغدادُ أهلوكِ رغمَ الجرحِ، صبرُهمُ صبرُ الكريمِ وإنْ جاعوا وإنْ ثَكلوا

قدْ يأكلونَ لفرطِ الجوعِ أنفُسَهُم لكنّهُم مِنْ قدورِ الغيرِ ما أكلوا

بعد ثلاث رنّات من كؤوس الكروم رفرفتْ بصحة بغداد المريضة الآن وصدحة أُم كلثوم حيّرت قلبي معاك وانا بداري واخبّي، فاضت الحنانات والجهشات، فذهب صبري إلى حانة شريف وحداد برأس شارع النهر والإطلالة الحلوة على نساء المستنصر ولبلبي أبو جون وشتائم جان دمّو المحببة، التي لا تشبه سباب عبدالأمير الحصيري.

أما أنا فقد غصت ببطن حانة الزقازيق، وطفرتُ طفرة مشتاق ولهان حتى نزلتُ بمقهى حسن عجمي وأدباء العصرية الذين ينقسمون إلى صنفين متعادلين، نوع يردد آخر قصائده وآخر يتحدث عن تقنيات القصة الحديثة وحسين الصعلوك يضحك على آخر مسروقاته من كتب الأصدقاء.

والصنف الثاني هم الذين ينشغلون بلعبتي الطاولي والدومينو أو الدومنة بلهجة أهل بلاد ما بين القهرين، وهؤلاء على نومتهم الأبدية بعبّ الفقر، فقد كانت مبارياتهم بثمن معلوم يتعلق بدفع فلوس الشايات والحوامض، أو سعر نصّية عرق يكرعها الرابح في مساء اتحاد ألأدباء بساحة الأندلس.

تحيط بأهل لعبة الطاولي خاصة مجموعة من الكائنات المزعجة التي لا تكتفي بمتعة الفرجة، بل تقوم أحايين بتنبيه اللاعب حول نقلة ممتازة، فتشتعل نار الوقيعة ويهرب الخسران من آخر رمية زهر أو زار أو نرد. ما تبقى من السهرة الجميلة، كانت من حصة صلاح أبو سيف مو مخرج فيلم القادسية.

لم يستهلك أبو سيف الكثير من اللغة، وربما فشلتْ إيحاءاتنا له بتطريبنا وتشجيننا بمقام الرست الذي يقرأه بطريقة وهدوء حسن خيوكة المذهلة. أظننا تلقينا قبل يباس الكأس الأخيرة مكالمة من حسن عبدالحميد ثم انقطع البثّ!

 

Facebook
Twitter