في محاولة للهروب من بهرجة الزينة الزائفة والمفتعلة التي اتسمت بها موجة الفن التجريدي والغوص في الحداثة تشتغل الفنانة التشكيلية العراقية (أفين عز الدين أمين ) على ارث الذاكرة، فهي ترسم حلم طفولي ملون يحاول ان يحتفظ بتاثير المكان المحيط به ،فمع كل لوحة تحكي لنا الف حكاية تحتمل التأويل. ان اعمالها تشكل حالة تعبيرية من العلاقات الوجودية ما بين الإنسان الغائب تقريبا والمدينة الحلم على وجه التخصيص، اذ تخلق مواقف بصرية جامعة في تجلياتها اللونية في تشخيص شكلي لرموز إنسانية وأماكن واستحضارها ذهنيا ووجوديا ، فينتقل اللون الواحد بتدرج عبر ما يتناسل منه من ألوان متوالدة في مزاج الفنانة لحظة الابداع لتاتي بصورة مباشرة في بعض اللوحات كأنه حلم قادم من بعيد بشكل ضبابي غائب الملامح او اشتغالات ذهنية لاستيلاد تصويرات تجريدية متجاوزة للمرئي والمحسوس وعلى تبسيط التعبير من حيث المعطي الصوري وتكثيفه ،فهي تتخذ من تعريه مظهر المنطقي الواقعي، وتزج به في إطار العجيب والمدهش مما يجعلها تقترح على المشاهد عالما داخليا ساحرا و توحيشيا الى حد بعيد تتكوم فيه المرئيات والمحسوسات. وتتوسل هذه العوالم العجائبية إلى ذلك باستعمال الألوان المضيئة والمنطفئة فتختارها بعناية دقيقة لكي تعبر عن المذاق خاص لصورة المدينة الحلمية التي تصنعها ، فالوحيد الذي يسكن اللوحة هو (الحلم) مع مساحات لونية مألوفة حسيا .. كالترنيمة الموسيقية ان في لوحاتها ملامح انطباعية غلبتها شبحية غير كاملة التكوين . فهي تحاول بجد تجاوز تشخيصية المكان بدراسة والعمل عليه على أساس الحالة الذهنية ومميزات المعمار المكاني وتاريخية الذاكرة، إن المدى الذي يشغله فن الذاكرة في اللوحة غير ممثل في شيء ساكن تمتلكة أو تحتويه، بل الذاكرة في اعمالها عملية تركيب ، وإعادة الصياغة. ويبقى المكان باعتباره فضاء اللوحة يعكس الواقع برؤية شاعرية تمتزج في تشكيل عفوي نتلمس فيه ايقاعات موسيقية ونرى فيها جمال التفاصيل وعذوبتها الفائقة وحركة الخطوط التي تدمج الاشكال . فالاقواس المتمركزة في وسط اللوحة احيانا تعكس أول ما تعكس ارث تراثي معاش محفور في ذات الفنانة، فهو عالم متسع ومتوالد وليس جامد شيئاً بل حلماً متدفقاً. ففي خلفيات اللوحات كحاضنة لونية متممة لتوزع مفرداتها الأساسية في متنها ، تبرز متواليات الأشكال التي ترنو إلى جموح التشكيل وإلى خبرة بصرية لمساحة الغواية الشكلية، وإلى إبراز واضح لذاتية الفنانة ومقدرتها على تفريغ انفعالاته بتلقائية الوصف والتشكيل، تعرف عن سابق تصور وتصميم إدراج رمزية بصرية تشير إلى معالم المكان بوصفه وشما وتوشِيَةً لونية تعتمد على ثيمة الذاكرة المثقوبة ، فتتحول الى احلام مكنونة وأوهام طفولية تتسم بالسريالية التي تنزاح عن الواقع لترسم عالما يتقاطع فيه الحلم واللاوعي و التذكر والنسيان والشعور واللاشعور. كي تثير الاستفزاز في المتلقي عن ادراك هذا التجريد والإضمار والتغريب كل هذا يعكس الحنين إلى المنابع ووجع الهجرة والارتحال. فالذاكرة عند الفنانة (أفين أمين)هي إعادة بناء مستمر مجدد لماض ما ، وليس بالضرورة استعادة أمينة لهذا الماضي وكما يصف ذلك (لويس ميلي) في كتابه:إدراك خيال وذاكرة فيعرفها بأنها استجابة في ظروف غياب بعض الحقائق، ذلك أن فعل الذاكرة هو في الأصل اكتشاف إنساني،هدفه مقاومة هذا الغياب الذي هو من خصائص الذاكرة فاعمالها ربما يكون حلماً نكوصياً يعبرعن الارتداد والتذكر كمحاولة للهروب من ثقل الحاضر وتناقضاته الكثيرة كي تستعيد مركزية الحنين والوقوف على أطلال مضت، لكنها تنفتح على آفاق ارحب في العمل التشكيلي .ان استخدام الكتلة والفراغ والسطوح الخشنه في بعض الاعمال مع استخدام الالوان الحارة بكثرة انما هو لأعطاء اللوحة الطابع الشرقي . فبعض الأعمال لها علاقة ملموسة ما بين الواقع والمكان والزمان.. وبعضها الاخر عبارة عن صور ذكريات لا شعورية تجسدت في اللوحات بالاوعي وهي (رسم المدن) …
ان المشاهد يقف موقف الاعجاب والتامل لتلك الاعمال ، فعلي صعيد اللون والضوء والحركة اللوحة تمتلك تماسك ما واغراء للمشاهدة الطويلة والتحديق والتحليل، ولكن اللوحة رغم تضليلها تحتوي علي امكانيات جمالية فتعتيم الرؤية باعتباره خلفية موازية لمحددات الشكل والمعنى، تأخذ مساحاته اللونية موقعها المتدرج في توليفات اللوحة . إن للتجريب أثرا كبيرا في تمكين الفنانة من إيجاد موقف متميز على مستوى الإبداع ، كما ان هناك بعض الاعمال الفنية لها علاقة بحالات إنسانية. والتي تتجلى في رسم الوجوه (البورتريه ) في لقطات جمالية قدمت فيها الكثير من الأناقة التصويرية والتشخيص المجازي معتمدة على الذاكرة للدخول في أغوار النفس وهذا دليل الثقافة الواسعة التي تمتلكها فهي سليلة عائلة ( أمين ) الفنية والتي تعد مدرسة تشكيلية في مدينة كركوك العراقية بمنجزها الفني الذي يعتمد على الحلم والذاكرة البصرية المفتــوحة على مقامات السرد.