بغداد : دعيني أبللك بالبكاء

علي السوداني

وكنا وحظنا تدعبلنا الأسبوع الفائت في قعر مظلمة سجن عتيق ينزل من سفح جبل اللويبدة العموني فيصير السفح متكأ وتصير أذياله اطلالة بسطة على كراج العبدلي وشهرته تكاد تبز شهرة مرآب النهضة برصافة بغداد العباسية ، وهذا شقيق مرآب العلاوي بكرخها البديع وقد شال هذان المرآبان حشوداً محتشدة من جند وفتيان الرافدين وهم لا يدرون بأي أرض ستكون مدافنهم الشريفة تنمو وتزهر وتلوّح . ليلتان مسجونتان وصبحية في مكبسة لحم بشري أزيده معمول من فراعنة نيليين صعايدة وبحيريين وكفريين ونوبيين وأسكندرانيين يلتمّون حول قصيعة رز مبلول بمنقوع ملوخية لا هي باللحمة ولا هي بالأرانب انما ببقيا زفرة وتبهير . المصاروة يشفطون لقيمات الرز المبقعة بعتمة الملوخية ويدفعونها الى البلاعيم مزفوفة بضحك كاد معه وجه سهيري الفلاح المهرّب حميد السماوي الوركاوي البدوي الشمري ، يطقّ من الضيم . قلت له : دعهم يقهقهون فالمصاروة جبلوا من نكتة وطرفة وملحة حتى لو كان واحدهم بين جنحي ملك سماوي يتلو عليه معلقة أيامه بأسافل جهنم . من مؤثثات السجن كان ثمة رجل حريف من بلاد كوستاريكا . شائعات الحبس تنفخه وتؤوله وتترسمه وتزيد وتقول : أن الفتى ينام على خزنة دنانير . السجّان مسك الحكاية من خشمها فصار الولد الكوستاريكي سلوته وسهرته ، فأن ناداه ، فبأسم بلده الذي فقد واوه وألفه وصار " كستريكا " وافراطاً بالتنكيت والتمليح والتشويق وثلم وحشة الفراق ، راح الشرطي  يلون ويدوزن ويموسق اسم بلاد كوستاريكا ، فيقف مطولاً على حرفيها الأولين : الكاف والسين ، فيضج العنبر بالكركرة ويستعيد المحبوسون كل كاف وسين اندلقوا من رحمه أو فاتوا وولجوا ظلمته وطلاوته ودبقه وسيرته . في الليلة الثانية ، بصمت بأبهام ترتعش من عظم المصيبة ، فرمان خلعي من عمّون الباردة الى بغداد الملغزة ، وابت الى فرشتي الأسفنجية المعضعضة وبطانيتي التشبه بطانيات شرق البصرة ونهر جاسم . زرعت قدمي على أخيرها فصارت ركبتاي عمد خيمة عطنة فشهقت بحسبي الله ، فأنرسمت على جدر الخيمة البطانية صور الطفلين الكبدين نؤاس وعلي الثاني وبينهما امهما ايمان الجميلة وحولهما ما تبقى من عمر وطيف حتى جن ليلي على تلاوة : ايتها الربة عمون وقد أحببتك وأدمنتك وشلت الكأس بعافيتك والصحب والصويحبات . زرعت عقبي على مدرجك الروماني القوي ونطرت صليل سيوف بائدات وسبايا مفترضات يتخببن عند سبيل الحوريات حتى مرقاة صومعة هرقل وتجليات آلهة القلعة وصيحات المسبيات ، ان دعوا علي السوداني منزرعاً ها هنا فما لنا فارقة بعده ولا ونسة قبله وقد رأيناه مرة يعصر خمراً وتارة يشخب قهراً وثالثة يغني ويطرب فتتنظف العيون من الدرن وتتعمّد الجثامين بموالات سومرية مدماة . اتركوه – بحقنا وبحقّه وبحوبة فقراء الآلهة والندمان والحكواتيين والشطار والعيارين والحواشي والمقتربات المطهرات –

في الصبحية الثالثة ، تنزّل الفرج مع مطر الربة وفاتحة ياسمينها المضوع . ابق يا علي فعمّون عمونك وماعونها ماعونك ، ووالله ما زال ملح بغداد السخية يلبط فوق اللسان . اذهب فأنت الطليق الحبيب العزيز العارف أن من دخل بيت الربة فهو آمن . أما انت يا أمي وسلوتي يا بغداد يا بنت يا متبغددة يا أم جديلة مورّدة ، فلقد مردت قلبي وشيّبت رأسي وشمّعت كبدي وكسرت كأسي وقوست ظهري وجعلتِني جلداً يلف كومة عظام . رتّلي عليّ ما تيسر من دفتر ابن الفارض العظيم ، ودعيني الليلة ابللك بالبكاء !!

Facebook
Twitter